بلح وزيتون

15 أكتوبر 2014

فلسطينيتان تقطفان الزيتون في قرية قرب الخليل (11 أكتوبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

درجت أولى خطواتي في الحياة، وشجرتا الزيتون والبلح متجاورتان في بيت عائلتي، وجدي يهتم بهما كل الاهتمام، ولم يكن يعمل سوى رعايتهما، فكتبت أول قصة قصيرة في جريدة القدس الفلسطينية، ومرت من تحت أنف الرقيب العسكري الإسرائيلي، فلم يفهم مغزى قصةٍ عن رجل عجوز، يهتم بنخلة صغيرة، ويرعاها. ويقطف ثمار الزيتون بيديه، لا بالعصا، ويحث أحفاده على الاهتمام بشجرتيه، ويوصيهم بعدم قطعهما لو انقطع أجله في الحياة، وعزم الأبناء والأحفاد على توسعة البيت.
لم يفهم الرقيب أن وصية جدي رسالة منه لكي نتشبث بالأرض، وندافع عنها، فالبلح رمز العروبة والزيتون رمز الصمود، وهما معاً رمزان لفلسطين، كونهما شجرتان صامدتان معمرتان، كصمود الشعب الفلسطيني وتجذره. لذلك، حين يوغل العدو في طغيانه، ويبتدع طرقاً للانتقام من الفلسطيني، يقطع أشجار الزيتون من فوق تلال الضفة الغربية وجبالها، وحين أراد أن يحقق انتصاراً وهمياً في غزة، اقتلع أشجار الزيتون والنخيل بجرافاته، في عمليات التوغل البرية، في العدوان، أما الأشجار التي كانت عصية على الجرافات الضخمة، فكان يحرقها ويتركها أعجازاً خاوية، لكي تحترق قلوب أصحابها من رؤيتها، ويفعل ذلك، وهو يعرف قيمة البلح والزيتون بالنسبة لنا معنوياً ومادياً.
موسم البلح والزيتون يمر على فلسطين مع بداية الخريف، ولا يتحرك المزارعون الذين ينتظرونه بأمل ورجاء لقطف ثمارهما، إلا بعد أن "يصلب الصليب"، وتعني هذه الـ"شيفرة" السرية بين الفلسطينيين سقوط المطر أول مرة في فصل الخريف، فيهب المزارعون إلى الحقول والمزارع، أهلاً وأقارب، حاملين الزاد وأدوات جني الثمار، متبعين المثل الفلسطيني "إذا صلب الصليب لا ترفع عن زيتونتك القضيب".
في فلسطين أزيد من 30 مليون شجرة زيتون، وتفيد تقديرات أولية بأنها ستنتج حوالى 19 ألف طن من الزيت هذا العام، وهو رقم منخفض قياساً بالأعوام الماضية، بسبب ما تتعرض له شجرة الزيتون من انتهاكات الاحتلال، وبسبب الضغوط الاقتصادية الصعبة. ولكن، هذا لا يمنع أن يمارس مزارعو الزيتون طقوسهم كل عام، فبمجرد نزول أول قطرات الزيتون من المعاصر، يستقبلها صاحب الأرض برغيفٍ من خبز الطابون، فيغمره بالسائل الذهبي، ويتناوله مع رفاقه وأفراد عائلته، استبشاراً وتيمناً، ويطهى منه أكلة "المسخن الفلسطيني"، وتعمر المعاصر بالناس الذين يتفاخرون بجودة ثمار أراضيهم، ويقضون الليالي ساهرين يتسامرون، في انتظار دورهم لعصر الزيتون، والحصول على الزيت، والذي يعتبر وجوده في البيت بركة.
 أما ثمار البلح فقد حققت، هذا العام، اكتفاء ذاتيا للغزيين الذين ساء وضعهم الاقتصادي، بسبب الحصار، ثم الحرب، فجنوا نحو 12 ألف طن من البلح، ما سيجعلهم لا يحتاجون المنتج الإسرائيلي منه، ويعزو أصحاب الأراضي المزروعة بالنخيل هذه "المنحة الربانية" إلى أنهم لا يتخلون عن طقوس قطف البلح، فهم يهدون من ثمره الجيران والأحبة القدر الذي يجعلهم على يقين، حسب المعتقدات الفلسطينية المتوارثة، أن ثمرها سيزيد، فالنخلة، إن لم يُطعم من ثمارها، يقل خيرها عاماً بعد عام.
كان جدي يقطف البلح، ويوزعه على الجيران والأقارب، ويستبقي منه لأمي الكثير، فتعد المربى المحشو باللوز وتصنع قوالب "العجوة"، حيث تجفف الرطب فوق سطح الدار، ثم تحوله أقراصاً كبيرة، وتحمرّه قليلاً في فرن طابون جارتنا، وتدهن وجه كل قرص بزيت الزيتون، وتغلفه بالنايلون، ثم تحفظه في درج الثلاجة، حتى يحل رمضان، فتحشو به كعك العيد.
وكان جدي يشرب كوباً صغيراً من زيت الزيتون، كل صباح، وظل يتمتع بالصحة والعافية، ولم يراجع طبيباً حتى بلغ التسعين، فمات تاركاً صفيحة كبيرة من الزيت، خلف باب غرفته، وماتت أمي، تاركةً درج ثلاجتها، ممتلئاً بأقراص العجوة التي صنعتها من ثمار نخلة جدي.

 

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.