بكائية موسادية على "العميل الغالي" أشرف مروان!

03 مارس 2019
+ الخط -

"سأخبرك بقصة، منذ سنوات طويلة التقيت في القاهرة بممثل شركة نفط كبيرة، وتناولنا طعام العشاء معاً، كان ذلك العشاء من النوع الذي يقدمه لك رجال من ذوي البشرة السوداء يرتدون قفازات بيضاء، ويشعلون لك سيجاراً بعود ثقاب خاص، مثل السينما تماماً، خرجنا لتنشق بعض الهواء، ورأيت إلى جوار منزله قصراً صغيراً أبيض اللون، كانت الأضواء تنبعث من القصر بشكل في غاية الروعة، قلت لمضيفي: انظر إلى روعة منزل جيرانك، فقال لي: هل تعرف من يقيم هنا؟ أجبته: لا، من؟ فقال: أشرف مروان، فرأيت على الفور الدولارات التي دفعناها له وهي تغطي جدران القصر".  

اختار شمويل جورين النائب السابق لجهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد) أن يروي هذه القصة المطعمة بلمسة عنصرية، رداً على سؤال وجهه له المخرج الوثائقي الإسرائيلي زوكي درور عن تفسيره للدوافع التي جعلت أشرف مروان زوج ابنة الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر يختار التجسس لصالح إسرائيل على مدى عقود، روى شمويل جورين الواقعة ثم ضحك، لكنه حرص في الوقت نفسه على تأكيد أن أشرف مروان لم يتعامل مع إسرائيل فقط من أجل المال، فهو لم تكن لديه مشكلة مالية حادة، قبل أن يضيف: "وعلى الرغم من ذلك، إن لم ندفع له، ما كان ليعمل معنا". 

 

كانت سيرة أشرف مروان قد جاءت ضمن حلقة من حلقات البرنامج الوثائقي الإسرائيلي (داخل الموساد)، خصصت للحديث عن كيفية تجنيد الموساد للجواسيس الذين يعملون معه، وكيفية تعاملهم مع موجهيهم والمسئولين عنهم، وطبيعة الأخطاء التي تقع في هذا الإطار، فتدفع بعض الموجهين للثقة أكثر من اللازم فيمن يعملون معهم من عملاء، ليدفعوا ثمن تلك الثقة غالياً، لأنهم نسوا أن العميل هو في النهاية "صديق مؤقت لا يمكنك أن تثق فيه على الدوام"، حسب تعبير شمويل جورين الذي يروي لمخرج الحلقات الوثائقية، أن الثقة في أشرف مروان لم تكن أمراً سهلاً في البداية بحكم موقعه الخطير وارتباطه بأسرة عبد الناصر، لكن أشرف اكتسب ثقة الموساد فيه بما قدمه من معلومات خطيرة، جعلت شمويل جورين يصفه بأنه "كان الأفضل في مجاله، كان أفضل من مر علينا".  

يقول شمويل جورين ضمن ذكرياته عن أشرف مروان: "كنت في مهمة في أوروبا، وعلمت أن الرجل يحاول التواصل معنا، عقدنا اجتماعاً أولياً، وعندما سمعت الاسم، لم أصدق أنه هو بصراحة، لم أصدق ذلك.. عندما رأيت أول دفعة من المواد التي جاء بها، قلت: إن كان الأمر حقيقياً فهو أمر مزلزل، لم نحظ بشيئ كهذا من قبل، كانت تلك المواد غير معقولة، فقد وقعت أكثر المعلومات الاستخبارية سرية في مصر بين أيدينا، كان من بين عدة أشخاص أمدونا بمعلومات، منعت من إسقاط طائرتين لنا على الأقل، كان على متنهما مئات الإسرائيليين"، كان مخرج الحلقات قد صادف ردود أفعال غاضبة من ضيوفه من قيادات الموساد السابقين، حين حاول الخروج منهم بمعلومات أكثر تفصيلاً، وربما لذلك لم يطلب إيضاحاً حول طبيعة الأشخاص الآخرين الذين أمدوا الموساد بتلك المعلومات التي جعلت الموساد يتأكد من صدقية معلومات أشرف مروان، وهي المعلومات التي نشرت بعد ذلك في العديد من الصحف الإسرائيلية، حين انتهى التاريخ المحدد لبقائها ممنوعة من التداول. 

 


حين سأل مخرج الحلقات نائب مدير الموساد السابق عن الميزة التي كان يتمتع بها أشرف مروان والتي جعلته يحصل على الكثير من المعلومات الخطيرة التي استفادت منها إسرائيل، أجابه شمويل جورين ببساطة: "لقد كان زوج ابنة عبد الناصر، وفي مصر حين تكون زوج ابنة عبد الناصر يكون لك وضع خاص"، ثم أشار إلى المهام الاستخباراتية التي كان أشرف مروان يقوم بها بتكليف من الرئيس أنور السادات، والتي جعلته يلتقي بمسئولي المخابرات السعودية والليبية والإيطالية وربما بأشخاص من المخابرات الأمريكية، ولكي يشرح الصورة أكثر للمشاهد الإسرائيلي الذي تتوجه إليه الحلقات في المقام الأول أضاف شمويل جورين: "الوضع عندهم يختلف عن الوضع عندنا، عندنا لا بد أن تصعد مهام كهذه إلى مدير الجهاز ليفحصها ويكلف بها ضباطاً، أما هناك لا يطرح أحد أسئلة على زوج ابنة الرئيس، لأن من يفعل ذلك يصبح في خبر كان، ولذلك عندما ذهب أشرف مروان إلى لندن صار السفير المصري هناك يتملقه لأنه زوج ابنة الرئيس". 

في إطار بحث البرنامج الوثائقي عن الدوافع التي شجعت أشرف مروان على التعاون مع الإسرائيليين، وما إذا كان للأمر علاقة بخيبة أمله وبرغبته في الانتقام بعد تدهور مكانته في مصر، قال نائب رئيس الموساد السابق إنه يعتقد أن الغرور والأنا المتضخمة كان لهما دور في قرار أشرف مروان بالتعاون مع الموساد: "لقد قالها حرفياً: أريد أن يكون لي تأثير، كان ذلك جزءاً من شخصيته، ولذلك راقه أن يلتقي بمدير الموساد تسفي زامير شخصياً، وقد عبر عن مشاعره تجاه ذلك اللقاء على هذا النحو: قد لا يكون المصريون يحبونني، لكن هناك لديكم من يحبني"، وحين سأل مخرج الحلقات تسفي زامير الذي عمل مديراً لجهاز الموساد في الفترة من 1968 إلى 1974 عن انطباعه عن تجربة العمل مع أشرف مروان بعد مرور كل هذه السنوات عليها، قال له تسفي زامير الذي حرص على أن ينتقي كلماته بحذر طيلة المقابلة: "العلاقة بين الموجه والعميل أمر معقد للغاية فهي وقبل كل شيئ علاقة بين شخصين، لكن أشرف مروان كان حالة شديدة الندرة، كانت بيننا علاقة من الاحترام المتبادل، كان يكن لي احتراما كبيرا وكنت أكن له الاحترام بدوري، وكان يشعر بذلك بقدر ما كنت أشعر به".

 

كان مخرج حلقات (داخل الموساد) مندهشاً من الحفاوة الزائدة بأشرف مروان، والتي لمسها في كلام رئيس الموساد ونائب رئيس الموساد السابقين، وحين قال له شمويل جورين أنه لا يوجد عميل مخلص مائة بالمائة، وأن على القيادي بالموساد أن يضع في اعتباره دائماً أن العميل قد يخونه، سأله المخرج: إذن كيف كنت تأكدتم أن أشرف مروان لن يخونكم؟ فأجابه جورين: "كنت طول الوقت أبحث عن مؤشرات من التعامل المزدوج، مؤشرات عن التضليل فيما نراه أو نسمعه، لم أستطع العثور على شئ"، وحين طلب منه المخرج ذكر مثال للتأكيد على إخلاص أشرف مروان الكامل للموساد، أجابه جورين متحمساً: "سأخبرك عن قصة المسدس، لاحظ موجه أشرف مروان وجود انتفاخ تحت قميصه فسأله: ما هذا تحت قميصك؟ فاتضح أنه كان يحمل مسدساً، وتسفي زامير مدير الموساد الإسرائيلي كان يجلس مع عربي يحمل مسدسا وكان يمكنه سحب المسدس وقتل تسفي زامير وموجهه وشخص آخر أيضاً، لم أسمع عن جهاز استخباري آخر يلتقي مديره بعميل أجنبي مسلح بمسدس في جيبه، تخيل للحظة أنه قتل تسيفيكي زامير في شقة في لندن مع شخص أو شخصين آخرين، أي عميل مزدوج كان سيفعلها". 

"لكن لم قد يلتقي مدير الموساد بعميل في الأساس؟ هل يلتقي مدير الموساد بعملاء في الأساس؟" يسأل مخرج الحلقات نائب رئيس الموساد مندهشاً مما سمعه، فيغضب جورين من السؤال، ويقول له: "اسمع لن أخوض في التفاصيل، فأنا لا أحب هذه الطريقة في الاستجواب"، لكن المخرج يصر على أن يسأل تسفي زامير نفسه: "هل كان من الطبيعي لقاء عميل بهذه الطريقة؟"، فيجيبه بضيق: "أولاً لا أريد إخبارك"، وحين عاد المخرج ليسأله من جديد: "ألم تخش أنه قد يخونك؟"، أجاب زامير بنبرة قاطعة: "لا". 

بعد أن يروي تسفي زامير ما سبق أن حدث في منتصف مايو 1973، حين أبلغ قادة إسرائيل عن وجود احتمالات بشن هجوم على إسرائيل، واتضح أن ما وصله كان إنذاراً كاذباً، وتعرض بسبب ذلك إلى هجوم من منافسيه في جهاز الاستخبارات العسكرية، الذين اتهموه بأنه يسعى لجر إسرائيل إلى حرب، لكنه طلب من مرؤوسيه وزملائه في الموساد ألا يتأثروا بذلك الهجوم وأن يواصلوا القيام بواجبهم، ولذلك حين طلب منه أشرف مروان أن يأتي بنفسه إلى العاصمة البريطانية لندن في الخامس من أكتوبر 1973 ليبلغه بمعلومات خطيرة، قرر رئيس الموساد الذهاب إليه بدلاً من حضور اجتماع يضم رئيس الوزراء ومدير الاستخبارات العسكرية ووزير الدفاع ورئيس أركان جيش الدفاع. 

يقول تسفي زامير في شهادته التي أدلى بها في الحلقات الوثائقية: "في لندن استجوبت أشرف مروان بشأن كل ما أخبرنا به في الماضي، ثم فحصنا ومحّصنا معه كل شيئ مرارا وتكراراً، وقلت لنفسي: يا تسفي زامير عليك أن تنذر البلاد برمتها، فلتجعل الناس ينتقلون من الصلاة والدعاء إلى الاستعداد للحرب، لأن هذه المعلومة في غاية الأهمية، في يوم 5 أكتوبر كنت في لندن وكتبت برقية مشفرة من 5 أسطر تقول: يرى الملاك أن الشركة لا تزال تعتزم توقيع العقد وهم يعرفون أن الغد عطلة"، ثم يضيف زامير أنه كان يعرف "أن هناك احتمالات جيدة لأن تكون تلك المعلومة خاطئة من قبل، وأنه سيتم رجمي حتى الموت عندها، لكن حين يسمع رجل المخابرات من مصدر يثق به أن الحرب تلوح في الأفق وأن تاريخها قد حدد بالفعل، فهو ملزم بدق ناقوس الخطر وبدق كل النواقيس لأن الحرب مقبلة"، مؤكداً أنه أخلى مسئوليته وأبلغ قادته الرسالة بشكل واضح، وقال لهم "القرار بيدكم"، لكنهم تحركوا بعد فوات الأوان "ودفعنا ثمن ذلك دماً".  

 

خلال استعراضه لمصائر بعض العملاء المهمين الذين تعاونوا مع الموساد، يركز البرنامج الوثائقي على ما جرى لأشرف مروان بعد سنوات طويلة من الخدمات الجليلة التي قدمها لإسرائيل، حين بدأت الصحافة الإسرائيلية بشكل متصاعد نشر تفاصيل عن علاقته القديمة بالموساد، وكان من المثير للدهشة أن نائب رئيس الموساد السابق شمويل جورين قال للبرنامج إن أشرف مروان لم يقطع تعامله مع إسرائيل عقب حرب 73، بل ظل يتعامل معها إلى أن تم الإعلان عن اسمه في الصحافة، وكان نص كلامه في هذه النقطة كالآتي: "لقد عمل معنا لسنوات طويلة، بقي عميلا لإسرائيل حتى بعد حرب 1973، كان يعمل بدون مشاكل، بدأت المشاكل حين أعلن عن اسمه. كان أشرف مروان ثروة وطنية ونحن الإسرائيليون مذنبون بعدم توفير الحماية له كما يجب. شعر كل مراسل صحفي بأن عليه حشر اسم أشرف في كل شيئ من كان وماذا كان وكيف أجري التواصل، كنا نتوسل إليهم أن يتوقفوا، حتى بعد أن بدأوا بالحديث عنه ظل يأمل بأن يتوقفوا، لكنهم واصلوا الحديث عنه، واصلت الصحافة الإسرائيلية تأجيج القصة، إلى أن جاء أحدهم وألقى به من النافذة". 

يعلق يوسي ألفير ضابط العمليات السابق في الموساد على ما جرى لأشرف مروان قائلاً بغضب: "هذا واحد من أسوأ الاخفاقات الاستخباراتية الإسرائيلية، فقد أعلن عن اسم عميل استخباراتي على الملأ، واستنتج العالم أن إسرائيل غير قادرة على حماية هويات عملائها، من سيرغب بالتعامل مع هكذا دولة"، أما تسفي زامير رئيس الموساد السابق فيصف ما جرى بحزن بالغ قائلاً: "لقد سلّمناه"، يسأله المخرج: "كيف كان شعورك حينما سمعت بمقتل أشرف مروان؟"، فيجيبه بتأثر: "شعرت بالحزن، شعرت بحزن كبير، لم أقم بالوشاية به ولم أخنه، لقد دافعت عنه، لقد كنت وإلى حد بعيد من المضحك قول هذا ولكنني كنت شخصا يمكنه الاعتماد عليه وأؤكد لك أننا كنا صديقين"، ليعرض المخرج بعدها مباشرة تعليقاً من نائب رئيس الموساد السابق يرى فيه أن من الخطأ وجود علاقة ودية بين موجه وعميل، وأن من الضروري دائماً أن تكون شديد الحذر حين تتقرب إلى العميل، وهو كلام لم يعجب تسفي زامير حين واجهه به المخرج، فقال له بغضب: "هذا العمل المتمثل بتوجيه العملاء، يشتمل على الكثير من الحكمة وطباع الناس تختلف من شخص إلى آخر وأنا أفعل ما افعله، طفح الكيل، كفى لقد قلت أكثر مما كنت أنوي أن أقوله"، ثم نهض من مقعده وترك التصوير. 

قبل أسبوعين، أتاحت شبكة (نتفليكس) لمشاهديها حول العالم مشاهدة حلقات (داخل الموساد) بعد عامين من عرضها داخل إسرائيل، ليصبح المشتركون فيها قادرين على مشاهدة ما سبق أن سمحت الرقابة العسكرية الإسرائيلية بأن يراه مواطنو إسرائيل عن عمليات نفذها الموساد في مصر وسوريا ولبنان والسودان وأوروبا، حدث ذلك في ذات الوقت الذي أصدرت فيه محكمة عسكرية مصرية حكمها بالسجن لخمس سنوات على الناشر الشاب خالد لطفي، لأنه قام بإعادة طبع الترجمة العربية لكتاب (الملاك) الذي يروي مؤلفه الإسرائيلي يوري بار جوزيف رواية خطيرة عن علاقة أشرف مروان الطويلة بالمخابرات الإسرائيلية، وهي الرواية التي تجاهلت السلطات المصرية التعليق عليها تماماً، لأنها تدرك أن أحداً لن يجرؤ في مصر على مطالبتها بكشف حقائق هذه القضية الخطيرة، وتعرف جيداً أن الغالبية الساحقة من مثقفيها وإعلامييها وفنانيها لن يجرؤوا على توجيه أي أسئلة جادة عن أداء الأجهزة الأمنية التي تعوّد المصريون على وصفها بالسيادية، أسئلة كالتي يمتلك نظراؤهم الإسرائيليون حق طرحهم على قادة بلادهم، وهو ما يمكن أن تفهم في إطاره لماذا لم تستخدم السلطات المصرية الرأفة مع الناشر الشاب، الذي سبق وأن استجاب لطلبها بإعدام نسخ الكتاب، الذي ظلت طبعته الأصلية الصادرة في بيروت تباع طيلة أشهر في المكتبات المصرية بثمن باهظ دون أي اعتراض أمني، وحين قامت السلطات الذكية اليقظة بمصادرة الكتاب، أصبح متاحاً على عشرات المواقع في شبكة الإنترنت، وبدلاً من أن تقوم بالرد على ما جاء في الكتاب، أو تقوم بمقاضاة مؤلفه ولو صورياً في محاكم حليفتها الإستراتيجية إسرائيل، اكتفت باعتقال خالد لطفي وتقديمه للمحاكمة العسكرية، التي أصدرت حكمها القاسي عليه، بعد أن اتهمته بتهمتين متناقضتين هما "نشر أسرار عسكرية وترويج شائعات"، وهي اتهامات لن تخشاها شبكة (نتفليكس) التي لا تبث موادها من مدينة الإنتاج الإعلامي، ولا تخضع لسلطات "الهيئة الوطنية للإعدام". 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.