07 نوفمبر 2024
بغداد ودمشق
يُواجه العرب، منذ نهاية القرن الماضي، معارك تستهدف المَسَّ بوجودهم، كما تستهدف تحقيرهم، والتنقيص من مكانتهم في التاريخ. فقد اجتمعت شروط عديدة، حَتَّمَت ترتيب أشكال متواصلة من الصراع داخل محيطهم الجغرافي، لا ينتهي الواحد منها إلاَّ ليبدأ الآخر، وبصورة متسلسلة. وقد استعملت في صور الصراع الدائرة أنماطٌ من المناورات والمؤامرات غير المعهودة في التاريخ، كما استخدمت أسلحةً أخطر وأكثر تعقيداً، وقد حصل ذلك كله، ضمن الجدليات المُعَقَّدة للتاريخ المعاصر.
توحي بعض جمل ما كنا بصدد تعيينه، في الفقرة السابقة، بنوعٍ من البكائيات التي تصبح متداولةً في أزمنةٍ مماثلة، إلاَّ أننا لا نتجه، هنا، إلى إنشاء بكائيةٍ تُذْرِف الدمع، وتصدر أصْوَاتَ النَّحيب المُوجِعَة على الأماني والتطلّعات التي رسم العرب كثيراً من ملامحها في برامجهم وخطاباتهم، وأضحت اليوم أبعد من المستحيل. إننا لا نروم إنشاء بكائية، على الرغم من أن ما ينتابنا من شعور، ونحن نُدَوِّن مواقفنا من متوالية الخراب في ذاكرتنا وحاضرنا، يندرج ضمن بكائياتٍ عديدةٍ، تَنْدُب مصائرنا وأوهامنا.. ما نتوخَّى الإشارة إليه هو إثارة الانتباه إلى حالٍ لم يعد يخفى على أحد قربها من هاويةٍ بلا قرار.
تحتل كل من بغداد ودمشق في الذاكرة الثقافية العربية مكانة خاصة، فقد شَكَّلاَ معاً في تاريخنا الطويل علامات إضاءةٍ صانعةٍ لرصيد ثقافتنا وفنوننا وعمراننا في التاريخ، وهما يتعرَّضان، اليوم، لأسوأ عمليات التقويض والهدم، فالتَّتَار الجدد لا يتردَّدون في دَكِّ كل بناء قائم بكل من فيه، وبكل ما يمثِّله في الحاضر والماضي من رمزيةٍ فائقة. إننا نتصوَّر أن الذي يُوَجِّه ضرباته اليوم لهاتين الحاضرتين التاريخيتين يريد اجتثاث الرمزية السامية التي رَكَّبَتْها كل منهما في قلب الثقافة العربية، صحيحٌ أن ما يقع في المشرق العربي من حروبٍ متواصلة، يمكن أن يُفْهَم ضمن السياقات السياسية والتاريخية التي تُحَدِّد أوجهه العامة، إلاَّ أن خطورة هذا الذي يحدث أمامنا وبجوارنا، تُبْرِز أن أبعاداً أخرى غير مُعْلَنَة ولا معروفة، لها علاقةٌ ما بما يجري، وهي تجد لها مكاناً وسط كل هذا الخراب الذي لا يتوقَّف، والذي يستهدف اجتثاث المدن وساكنتها، بل واجتثاث كل معالم التاريخ وإبداعاته داخلها.
تزداد خطورة هذا الأمر، عندما نعرف أن الجيل الجديد من الحرب المشتعلة اليوم في المشرق العربي تقوم على مبدأ تفجير الأبنية فوق ساكنتها، وتفجير التجمُّعات السكانية في الشوارع والأماكن العمومية والأحياء السكنية، الأمر الذي يُلحِق أضراراً عديدة بالبشر ومكاسبهم وتطلُّعاتهم، وهي أضرارٌ يصعب التخلص منها، ومن الآثار والجروح المادية والنفسية التي تخلِّفُها، وتنعكس على الآثار التي بنى بواسطتها رصيداً من الثقافة والفكر والإبداع.
نعود، هنا، إلى القول إننا لسنا بصدد تحرير بكائيةٍ، تستهدف تذكير من هم في غفلةٍ مما يجري أمامهم، قَدْرَ ما يتعلق بنوعٍ من الرَّصْد الذي يتوخَّى التوصُّل إلى معرفة بعض أبعاد ما يجري، وبناء بعض نتائجه في الحاضر العربي.
لا يجب أن نستهين بثلاثة عقودٍ من الخراب، فمنذ العقد الأخير من القرن الماضي، تلاحقت
على المشرق العربي أحداثٌ ومعارك، كثير منها يصعب فهمه في إطار حسابات الحتمية الميكانيكية، وقليل منها يمكن أن يُفْهَم تحت ضغط حساباتٍ أخرى، تتعلق بموازين القِوَى الإقليمية والدولية في المنطقة العربية، وسواء تَمَّ استيعاب المتغيِّرات الجارية في المجتمعات العربية، في سياق الاستراتيجيات الدولية، أو في إطار مستجدَّات التناقضات الإقليمية، فإنه لا يجب أن ننسى الإشارة إلى أن أنظمتنا في المشرق العربي مسؤولة عن جوانب معينة من هذا الذي وقع ويقع فوق رؤوسنا، ودَفَع ويدفع أجيالاً من شبابنا لِلتِّيه على حدود الدول الإقليمية، وشواطئ البحر المُحاذية للشواطئ الأوروبية، الأمر الذي يدعونا إلى ضرورة التفكير في بناء المبادرات الرامية إلى وقف هذا النزيف، ذلك أن بغداد والمُوصِل والشام وصنعاء وبيروت وبنغازي، بل وكل حواضر وأرياف المشرق العربي، وبدون استثناء، تَطْلُب اليوم الإغاثة من واقعٍ يتجه إلى وَضْعِها في الجحيم، جحيم حروبٍ متلاحقة، وجحيم أسلحة تَبْنِي الأوهام، وتحارب بالأوهام، وتُشْعِل النيران بالمواد الحارقة في كل مكان.
لا يتعلق الأمر، كما قلنا، ببكائيةٍ نذرف فيها الدموع على الأطفال والشيوخ والشباب، قدر ما يتعلق بالمصير العربي، وهو مصيرٌ ساهمنا جميعاً في تركيب جوانب عديدة من ملامحه، وآن أوان مواجهة أوضاعنا بِمَبْضَع يتوخَّى رفع الأوجه المُفْزِعَة فيه، لعلنا نكتشف الطريق التي تخرجنا من عنق الزجاجة، وتفتح أمامنا إمكانية الانتصار على أعطابنا...
تُقْرَأُ الأحداث الجارية بأكثر من لغة، إلا أن الاختلاط حَوَّل كل ما يقع إلى متوالياتٍ معقَّدة، فمن مواجهاتٍ مع الأنظمة إلى حروبٍ طائفيةٍ إلى اجتماع صُنَّاع الخرائط والدول بمقاسات شبيهةٍ، بما حصل في أزمنة خَلَت، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل: ماذا يقع بالذات؟
توحي بعض جمل ما كنا بصدد تعيينه، في الفقرة السابقة، بنوعٍ من البكائيات التي تصبح متداولةً في أزمنةٍ مماثلة، إلاَّ أننا لا نتجه، هنا، إلى إنشاء بكائيةٍ تُذْرِف الدمع، وتصدر أصْوَاتَ النَّحيب المُوجِعَة على الأماني والتطلّعات التي رسم العرب كثيراً من ملامحها في برامجهم وخطاباتهم، وأضحت اليوم أبعد من المستحيل. إننا لا نروم إنشاء بكائية، على الرغم من أن ما ينتابنا من شعور، ونحن نُدَوِّن مواقفنا من متوالية الخراب في ذاكرتنا وحاضرنا، يندرج ضمن بكائياتٍ عديدةٍ، تَنْدُب مصائرنا وأوهامنا.. ما نتوخَّى الإشارة إليه هو إثارة الانتباه إلى حالٍ لم يعد يخفى على أحد قربها من هاويةٍ بلا قرار.
تحتل كل من بغداد ودمشق في الذاكرة الثقافية العربية مكانة خاصة، فقد شَكَّلاَ معاً في تاريخنا الطويل علامات إضاءةٍ صانعةٍ لرصيد ثقافتنا وفنوننا وعمراننا في التاريخ، وهما يتعرَّضان، اليوم، لأسوأ عمليات التقويض والهدم، فالتَّتَار الجدد لا يتردَّدون في دَكِّ كل بناء قائم بكل من فيه، وبكل ما يمثِّله في الحاضر والماضي من رمزيةٍ فائقة. إننا نتصوَّر أن الذي يُوَجِّه ضرباته اليوم لهاتين الحاضرتين التاريخيتين يريد اجتثاث الرمزية السامية التي رَكَّبَتْها كل منهما في قلب الثقافة العربية، صحيحٌ أن ما يقع في المشرق العربي من حروبٍ متواصلة، يمكن أن يُفْهَم ضمن السياقات السياسية والتاريخية التي تُحَدِّد أوجهه العامة، إلاَّ أن خطورة هذا الذي يحدث أمامنا وبجوارنا، تُبْرِز أن أبعاداً أخرى غير مُعْلَنَة ولا معروفة، لها علاقةٌ ما بما يجري، وهي تجد لها مكاناً وسط كل هذا الخراب الذي لا يتوقَّف، والذي يستهدف اجتثاث المدن وساكنتها، بل واجتثاث كل معالم التاريخ وإبداعاته داخلها.
تزداد خطورة هذا الأمر، عندما نعرف أن الجيل الجديد من الحرب المشتعلة اليوم في المشرق العربي تقوم على مبدأ تفجير الأبنية فوق ساكنتها، وتفجير التجمُّعات السكانية في الشوارع والأماكن العمومية والأحياء السكنية، الأمر الذي يُلحِق أضراراً عديدة بالبشر ومكاسبهم وتطلُّعاتهم، وهي أضرارٌ يصعب التخلص منها، ومن الآثار والجروح المادية والنفسية التي تخلِّفُها، وتنعكس على الآثار التي بنى بواسطتها رصيداً من الثقافة والفكر والإبداع.
نعود، هنا، إلى القول إننا لسنا بصدد تحرير بكائيةٍ، تستهدف تذكير من هم في غفلةٍ مما يجري أمامهم، قَدْرَ ما يتعلق بنوعٍ من الرَّصْد الذي يتوخَّى التوصُّل إلى معرفة بعض أبعاد ما يجري، وبناء بعض نتائجه في الحاضر العربي.
لا يجب أن نستهين بثلاثة عقودٍ من الخراب، فمنذ العقد الأخير من القرن الماضي، تلاحقت
لا يتعلق الأمر، كما قلنا، ببكائيةٍ نذرف فيها الدموع على الأطفال والشيوخ والشباب، قدر ما يتعلق بالمصير العربي، وهو مصيرٌ ساهمنا جميعاً في تركيب جوانب عديدة من ملامحه، وآن أوان مواجهة أوضاعنا بِمَبْضَع يتوخَّى رفع الأوجه المُفْزِعَة فيه، لعلنا نكتشف الطريق التي تخرجنا من عنق الزجاجة، وتفتح أمامنا إمكانية الانتصار على أعطابنا...
تُقْرَأُ الأحداث الجارية بأكثر من لغة، إلا أن الاختلاط حَوَّل كل ما يقع إلى متوالياتٍ معقَّدة، فمن مواجهاتٍ مع الأنظمة إلى حروبٍ طائفيةٍ إلى اجتماع صُنَّاع الخرائط والدول بمقاسات شبيهةٍ، بما حصل في أزمنة خَلَت، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل: ماذا يقع بالذات؟