بغداد والكوكب المجاور

02 ابريل 2018

رسم لمشهد في بغداد في العام 1800 (Getty)

+ الخط -
يتفرّد العراق بحالات كثيرة، لا يشابهه فيها أي بلد آخر في العالم، ولعل هذا التفرّد هو في مجالاتٍ ربما الأسوأ من حيث الشكل والمضمون، في جل نواحي الحياة العراقية مذ التغيير السلبي الكبير الذي حلّ بهذا البلد عام 2003 وما تلاه من سنوات عجاف.
نعم، فالعراق الأعلى في معدلات الفساد، وفي مستويات البطالة قياسا بميزانياته الضخمة، والأردأ تعليما وتأمينا للصحة، الأخطر أمنيا، والمفتوح أمام كل التدخلات الأجنبية، إضافة إلى ما حلّ بصورته الحضارية من تشويه متعمّد كانت، وما زالت، الممارسات الدينية والطائفية والقومية الخاطئة، واجهات شديدة السواد والتراجع الإنساني فيه. استشراء المخدرات بكل أنواعها، امتلاك مليشيات منفلتة ومرتبطة بأجندات خارجية لإضعاف ما تمتلكه أجهزة الدولة الأمنية من الأسلحة. أرقام قياسية عالمية في عدد الأرامل والأيتام والمدن المدمرة. غياب تام لأي جهد حكومي رسمي لإعادة إعمار ما كان قبل 2003، أو لتشييد أو تأسيس أي بناء أو مشروع خدمي. لا حلول لمشكلة الكهرباء، وتعثّر في معالجة شح المياه. قضاء مجهول القرارات، وأدوات تنفيذية مجهولة الولاءات، وغير ذلك مما يرتبط بالحالة السيكولوجية للشباب العراقي من الرجال والنساء التي تسبب فيها المشهد برمته، منذ رؤيتهم، وهم أطفال، دبابات الاحتلال الأميركي، وهي تدوس شوارع مدنهم العزيزة، وحتى استلاب أدوارهم من احتلال آخر أبغض وأعمق قدم، وما زال من الشرق، حيث مصدر الوجع العراقي التاريخي الدائم.
كل هذا وربما فاتتني بعض الأشياء، في العراق عموما، وفي بغداد بشكل ملحوظ، العاصمة التي سعت كل الحكومات العراقية المتعاقبة، منذ حقبة الملك الراحل فيصل الأول وحتى انتهاء مرحلة الرئيس الراحل صدام حسين، إلى وضع جل جهودها لجعلها عروس المدن، بسبب عمقها الحضاري والتاريخي المرتبط بمكانتها في نفوس العراقيين والعرب، عاصمة لأهم المراحل الإسلامية تقدما وبريقا، مرحلة الدولة العباسية بكل زهوها.
لكن ومع كل ما ذكر من سوءات في المشهد العراقي الداخلي، فإن التفرّد الذي لا يشبهه شيء في العالم، والذي ربما جاء فقط على جزء من خيال غابريل غارسيا ماركيز في روايته "خريف البطريك" هو موضوع ما سميت "المنطقة الخضراء" في قلب العاصمة، والتي يتندّر بغداديون بتسميتها "الكوكب الآخر"؛ ذاك أنه لا وجود البتة لكل ما ذكر في أعلاه داخل هذه المنطقة، فهي منطقة حدّدها جغرافيا بشكل قسري الحاكم الأميركي المدني، بول بريمر،
مساحتها 22 كيلومترا، ضمت، إضافة إلى المنشآت الرئاسية والحكومية العراقية للنظام الرسمي السابق، أحياء وبنايات سكنية مقابل تعويض بائس قيمته ألف دولار قيمة إيجارية، ثم تحولت هذه الوحدات السكنية، المحمية بأطواق أمنية أميركية عديدة، إلى مقرّات وأماكن سكن للرئاسات الثلاث وأعضاء مجلس النواب والعاملين في سفارة الولايات المتحدة، بعد تخفيض قيمة إيجاراتها.
في داخل هذه المنطقة (الكوكب) كل ما يحتاجه المجتمع المدني كامل الإمكانات، إضافة إلى كل القدرات الأمنية التي توفر لسكانها الأمن، أو الفرار عند بلوغ الخطر تجاهها مرحلة متقدمة، كل وسائل الترفيه ومنتديات السهر والمنتجعات، كل الخدمات بشكل دائم ومثالي، كالكهرباء والماء والنظافة وجودة الطرق والمنشآت.
إذن نحن أمام شعبين، يعيش أحدهما أسوأ حالات الإهمال المتعمد، ويتمتع الآخر بأعلى مظاهر الرفاهية والرخاء. الأول هو من "انتخب الثاني ليتركه ويسكن في الكوكب المجاور المحظور على الأول دخوله أو بلوغ أبوابه، شعب يعيش داخل كوكب مجاور لبغداد، يصرّح ويعلق ويناقش قضايا شعب العراق، من دون أن يخرج ليطّلع بنفسه على ما ألمّ بهذا الشعب من ويلات، وشعب على الرغم مما قام به الآخر من إهمال متعمد لتقديم أبسط الخدمات لعيش كريم له، ينتظر شهر مايو/ أيار المقبل، ليعيد انتخاب رجال الكوكب الآخر ونسائه، على الرغم من معرفته أن أغلبهم سرقوا أمواله وقوته وأدخلوه في نفق من التخلّف والفساد والمديونية العالمية، وسلطوا عليه بذنوبهم من لا يخافهم، ولا يرحمهم من عصابات دولة بعينها، وانتهاكات لدول أخرى.
ساتر ترابي أو سياج إسمنتي أو مكهرب يفصل بين عشرات السنين من التخلف الحضاري والعوز المادي وتراجع قيمة الإنسان في المجتمع، والتي كانت دوما عليا في كل مراحل الحضارات التاريخية للعراق. وهل، يا ترى، ستكون للعاصمة بغداد عاصمة أخرى في الكوكب الآخر، سيكشف النقاب عنها بعد حين، بسبب الفارق الحضاري بين عاصمة الرشيد العتيدة والمتدهورة حضاريا باستمرار منذ عام 2003، والعاصمة النموذجية في الكوكب الآخر؟
F51601CD-AABE-44C5-B957-606753EEC195
فارس الخطاب

كاتب عراقي مقيم في لندن