27 سبتمبر 2019
بعض الفساد في سورية
لم يكن الفساد يوماً غريباً عن الدولة السورية، فهو في كل قطاعات الدولة ومؤسساتها ووزاراتها، وخصوصاً في سلكها القضائي، حتى أصبح المواطن السوري يعتبر الرشوة أصل كل القوانين، وإنه لا يمكن الحصول على حقه إلا بالرشوة. وقد عبر أحد القضاة عن حال القضاء في سورية بعبارته "من يدفع أكثر يربح الدعوة". وشهد المشفى الوطني مثلاً في اللاذقية تعاقب مديرين للصحة، أحدهما احتل منصب مدير صحة 23 سنة جمع خلالها ثروة بالمليارات، وكان له حصة في كل شيء، حتى في لجنة مكافحة القوارض (!)، وحين لم يعد في الوسع السكوت عن نهبه المال العام (مال الشعب والمرضى الذين يقصدون المشفى) بدأت تمثيلية لجان التفتيش المركزي التي كانت تزور المشفى كل يوم، وتدّعي أنها تحقق في قضية فساد مدير الصحة، وتسأل الأطباء والممرضات والمحاسبين. وبعد أربعة أشهر، قفز مدير الصحة إلى لندن، وبقي فيها أربع سنوات، ثم عاد إلى أحضان الوطن، يسرح في مزرعته التي تساوي مليارات. أما المدير الذي تلاه فقد كوفئ على فساده، وترقى إلى رتبة سفير في دولة عربية. تلاه آخر بلغت سرقاته المليار ليرة سورية، ونصحه محاميه بمغادرة سورية، فرد على المحامي ساخراً متكبراً: لن يطاولني القانون، لأنني أضع وزير الصحة ووزير العدل في جيبي. ... لكنه أخطأ قليلاً، إذ سُجن أربعة أشهر، دفع خلالها سبعة ملايين فقط من أصل مليار ليرة سرقها.
لا يساوي هذا الفساد الذي شهده ويعرفه كل مواطن سوري شيئاً تجاه الفساد، بعد بداية الثورة السورية، إذ فُتحت أبواب جديدة للفاسدين، وخصوصاً الضباط، وأعرف من شهادات مُجندين أن كل واحد منهم كان يدفع شهرياً لضابط 80 ألف ليرة سورية، كي لا يحمل بندقية ويقتل ويحارب، وكي لا يتحول إلى ورقة نعي (الشهيد البطل). ولم يكن أهالي بعض هؤلاء المجندين ميسوري الحال، فاضطر عديدون منهم لبيع السجاد أو أدوات كهربائية. ويصعب تقدير الملايين التي كان يحصل عليها هذا الضابط، خصوصاً أنه مسؤول عن مئات المُجندين. وبعد سنوات، فاحت رائحة فساده، إلى درجةٍ، اضطر معها أصحاب القرار في الدولة إلى إقالته، ولم تتم محاسبته أبداً، على الرغم من أن بعضهم يزعم أنه سُجن أسبوعين.
وليس هذا الضابط فريداً من نوعه، فكم من الضباط مثله أو فاقوه فساداً. وفي مراكز حزب البعث، يتندر الناس في التحدّث عن الرشاوي والمبالغ الطائلة التي يطلبها موظفون كبار في فرع الحزب، وتمت إقالة بعضهم، بعد أن ثبت استغلالهم المواطنين وسرقة الملايين، ولم يُحاسب أي منهم.
يضيق الحال بالسوريين، ولم تعد هناك إمكانية تهريب الشبان، لكي لا يلتحقوا بخدمة الجيش السوري، ويموتوا ميتة سهلة، كما كانت منذ سنتين، وإمكانية الحصول على تأشيرة إلى تركيا شبه مستحيلة، كما الدخول إلى أراضيها عن طريق المُهربين. ولبنان أيضاً حدّ، إلى حد كبير، من دخول السوريين، وشبان عديدون قابعون في بيوتهم، لا يجرؤون على المشي في الشارع أو الجلوس في المقهى، لكي لا يُشحطوا إلى سيارات الأمن التي تلتقط كل شاب ليلتحق بالجيش، ويقاتل "غصباً عن رأسه ويستشهد غصباً عنه وعن أهله". وأصبحت قصص الشبان السوريين تفوق قصص ألف ليلة وليلة وقصص الخيال العلمي. فأحدهم يصر على الفرار من وطن الموت سورية، ورسم خطة بأن يسافر إلى السودان ومنها إلى الجزائر. وفي الجزائر يأمل أن ينسل إلى دولة أوروبية. وواحد من ميسوري الحال دفع مليوني ليرة لأحد الضباط، لكي يعفيه من مهامه جندياً يحمل سلاحاً، وضاعت المليونان ولم تجد نفعاً. وظل الشاب مختبئاً في بيت استأجره للاختفاء عن عيون الشرطة، الباحثة عن وقود بشري للحرب القذرة.
حكاياتٌ تتناسل بألمٍ لا يوصف، ويأسٍ لا يوصف، صارت الحديث اليومي للسوريين. ولا أحد يبالي بهذا الشعب الذي اتفق العالم كله على تسمية مأساته مأساة القرن. كيف ستبنى الثقة بين الدولة والمواطن، في ظل عدم المحاسبة المُخزي هذا؟ ما معنى وضع دستور جديد في سورية، إن لم ير المواطن السوري الفاسدين يُحاكمون ويدخلون السجن؟ هل يُمكن لوم أطفال فقراء حُرموا التعليم والغذاء على انحراف بعضهم وسرقاتهم الصغيرة ليسدوا جوع معدتهم. أي مستقبل تعيس وأفق مسدود ينتظر السوريين في دولةٍ أصبح فيها الفساد أقوى من الدولة، والرشوة أقوى من كل القوانين.
لا يساوي هذا الفساد الذي شهده ويعرفه كل مواطن سوري شيئاً تجاه الفساد، بعد بداية الثورة السورية، إذ فُتحت أبواب جديدة للفاسدين، وخصوصاً الضباط، وأعرف من شهادات مُجندين أن كل واحد منهم كان يدفع شهرياً لضابط 80 ألف ليرة سورية، كي لا يحمل بندقية ويقتل ويحارب، وكي لا يتحول إلى ورقة نعي (الشهيد البطل). ولم يكن أهالي بعض هؤلاء المجندين ميسوري الحال، فاضطر عديدون منهم لبيع السجاد أو أدوات كهربائية. ويصعب تقدير الملايين التي كان يحصل عليها هذا الضابط، خصوصاً أنه مسؤول عن مئات المُجندين. وبعد سنوات، فاحت رائحة فساده، إلى درجةٍ، اضطر معها أصحاب القرار في الدولة إلى إقالته، ولم تتم محاسبته أبداً، على الرغم من أن بعضهم يزعم أنه سُجن أسبوعين.
وليس هذا الضابط فريداً من نوعه، فكم من الضباط مثله أو فاقوه فساداً. وفي مراكز حزب البعث، يتندر الناس في التحدّث عن الرشاوي والمبالغ الطائلة التي يطلبها موظفون كبار في فرع الحزب، وتمت إقالة بعضهم، بعد أن ثبت استغلالهم المواطنين وسرقة الملايين، ولم يُحاسب أي منهم.
يضيق الحال بالسوريين، ولم تعد هناك إمكانية تهريب الشبان، لكي لا يلتحقوا بخدمة الجيش السوري، ويموتوا ميتة سهلة، كما كانت منذ سنتين، وإمكانية الحصول على تأشيرة إلى تركيا شبه مستحيلة، كما الدخول إلى أراضيها عن طريق المُهربين. ولبنان أيضاً حدّ، إلى حد كبير، من دخول السوريين، وشبان عديدون قابعون في بيوتهم، لا يجرؤون على المشي في الشارع أو الجلوس في المقهى، لكي لا يُشحطوا إلى سيارات الأمن التي تلتقط كل شاب ليلتحق بالجيش، ويقاتل "غصباً عن رأسه ويستشهد غصباً عنه وعن أهله". وأصبحت قصص الشبان السوريين تفوق قصص ألف ليلة وليلة وقصص الخيال العلمي. فأحدهم يصر على الفرار من وطن الموت سورية، ورسم خطة بأن يسافر إلى السودان ومنها إلى الجزائر. وفي الجزائر يأمل أن ينسل إلى دولة أوروبية. وواحد من ميسوري الحال دفع مليوني ليرة لأحد الضباط، لكي يعفيه من مهامه جندياً يحمل سلاحاً، وضاعت المليونان ولم تجد نفعاً. وظل الشاب مختبئاً في بيت استأجره للاختفاء عن عيون الشرطة، الباحثة عن وقود بشري للحرب القذرة.
حكاياتٌ تتناسل بألمٍ لا يوصف، ويأسٍ لا يوصف، صارت الحديث اليومي للسوريين. ولا أحد يبالي بهذا الشعب الذي اتفق العالم كله على تسمية مأساته مأساة القرن. كيف ستبنى الثقة بين الدولة والمواطن، في ظل عدم المحاسبة المُخزي هذا؟ ما معنى وضع دستور جديد في سورية، إن لم ير المواطن السوري الفاسدين يُحاكمون ويدخلون السجن؟ هل يُمكن لوم أطفال فقراء حُرموا التعليم والغذاء على انحراف بعضهم وسرقاتهم الصغيرة ليسدوا جوع معدتهم. أي مستقبل تعيس وأفق مسدود ينتظر السوريين في دولةٍ أصبح فيها الفساد أقوى من الدولة، والرشوة أقوى من كل القوانين.