بعد 20 عاماً على تحرير جنوب لبنان

25 مايو 2020
+ الخط -
في مثل هذا اليوم قبل 20 عاماً، خرج آخر جندي إسرائيلي من الجنوب اللبناني بعد وجود عسكري استمر أكثر من 18 عاما. وشكل هذا الانسحاب أكبر إنجاز عسكري يحققه حزب الله، وكان في تلك الفترة لا يملك القدرات العسكرية الهائلة التي يملكها اليوم، على أكبر قوة عسكرية في المنطقة، وكان بداية لمسار تعاظم قوة حزب الله العسكرية في لبنان، ووضعه قواعد جديدة للمواجهات مع إسرائيل، وصعود نفوذه السياسي وتأثيره في التوازنات السياسية في البلد، وقدرته الكبيرة والعميقة على بلورة صورته المستقبلية، وأكبر دليل على ذلك المكانة الكبيرة التي يحتلها حزب الله في الحياة السياسية في لبنان حالياً. بيد أن تداعيات الانسحاب الإسرائيلي من لبنان بعد مرور 20 عاماً لا تقل أهمية بالنسبة إلى إسرائيل، وهي تداعيات عسكرية - استراتيجية واجتماعية - سياسية.
على الصعيد العسكري، شكل قرار الانسحاب من جنوب لبنان الذي اتخذه رئيس الحكومة آنذاك، إيهود باراك، اعترافاً عملياً بانهيار مقولة أهمية الحزام الأمني الذي أقامته إسرائيل في الجنوب، بحجة الدفاع عن أمن مستوطناتها الشمالية من صواريخ المقاومة. لقد أثبتت المواجهات التي دارت بين مقاتلي حزب الله والجنود الإسرائيليين خلال تلك السنوات، بصورة لا تقبل الجدل، أن هذا الوجود لم يعد له أي معنى، وتحول إلى فخ دفع الجنود الإسرائيليون ثمناً باهظاً له، فقد تراوح عدد القتلى سنوياً بين 22 و25 قتيلا. ويمكن القول إن انهيار الحزام الأمني في الجنوب هو نهاية عقيدة "العمق الاستراتيجي" وأهميتها في الدفاع عن أمن إسرائيل، ففي زمن الصواريخ الدقيقة لم يعد هناك أي جدوى لمقولة العمق الأمني.
مبدأ أساسي آخر كرسه الانسحاب من لبنان عام 2000: الانسحابات والحلول أحادية الجانب. لم يجر الانسحاب من لبنان باتفاق رسمي مع أي طرف لبناني أو دولي، بل حدث من خلال 
مفاوضات غير علنية، قام بها الوزير الإسرائيلي يوسي بيلين حينها مع عدد من الأطراف الدولية لضمان انسحاب هادئ من دون مواجهات. وشكّل نجاحه النسبي، من وجهة نظر إسرائيلية، مقدّمة للانسحاب الإسرائيلي من طرف واحد من قطاع غزة سنة 2005. ويمكن القول إن ما نشهده اليوم من محاولاتٍ إسرائيلية لفرض السيادة على غور الأردن وضم مناطق من الضفة الغربية يدخل ضمن هذا الإطار أيضاً، أي استبدال التفاوض مع الخصم بحلولٍ أحادية الجانب.
كان الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان تحت ضربات المقاومة تعبيراً عن معضلة أساسية سيواجهها الجيش الإسرائيلي لاحقاً في مختلف المواجهات العسكرية التي خاضها بصورة خاصة في حرب يوليو/ تموز 2006 في لبنان، أو في العمليات العسكرية الثلاث التي خاضها ضد حركة حماس في قطاع غزة: "الرصاص المصبوب" 2008 وعمليتي "عمود سحاب" 2012 و"الجرف الصامد" 2014. هذه المعضلة هي صعوبة تحقيق حسم عسكري في حربٍ غير متناظرة تدور بين جيش نظامي وعدو خفي مكون من مليشيات غير نظامية خفيفة التسليح تتحرّك داخل بيئة أهلية داعمة. وقد أجبر الإخفاق الإسرائيلي في المواجهات غير المتناظرة، القادة العسكريين على إعادة النظر بعقيدتهم العسكرية، وبلورة عقيدة جديدة تتلاءم مع التغيرات التي طرأت على أسلوب المواجهات.
وأظهر الانسحاب الإسرائيلي من لبنان أهمية التحول العميق الذي طرأ على وعي الجمهور 
الإسرائيلي، وموقفه من الحروب التي يخوضها الجيش الإسرائيلي. وبات من الواضح أن هذا الجمهور لا يريد أن يضحي بحياة أبنائه من أجل حرب عبثية وغير ضرورية. وقد شكلت حركة الأمهات الأربع، المطالبة بخروج الجيش الإسرائيلي من لبنان، أحد أهم التجليات لهذا التغير في نظرة الشعب الإسرائيلي حيال الحروب التي تخوضها إسرائيل. في نظر الإسرائيليين، حياة الجنود أهم من الدفاع عن المصلحة الأمنية العامة. وقد انعكست أهمية المحافظة على حياة الجنود في المعارك لاحقاً على العقيدة العسكرية الإسرائيلية التي أخذت تولي أهميةً أكبر لتطوير وسائل قتالية متطوّرة عن بعد تحفظ حياة الجنود.
على الصعيد السياسي، الانهيار الدراماتيكي لجيش لبنان الجنوبي، وهي مليشيات عسكرية أنشأتها ودرّبتها إسرائيل، لتتولى عملية إدارة شؤون المدنيين اللبنانيين في الحزام الأمني، هو نهاية مرحلة طموح إسرائيل من أجل "رسم الصورة السياسية للبنان" الذي كان من بين الأهداف التي وضعها وزير الدفاع أريئيل شارون سنة 1982 للغزو الإسرائيلي للبنان. بعد الانسحاب من لبنان، تحول قدامى جيش لبنان الجنوبي إلى مشكلةٍ لإسرائيل التي ظهرت كأنها تخلت عن حلفائها، وتركتهم وحدهم يواجهون مصيرهم. وطوال سنوات، شكل ملف هؤلاء موضوع خلاف إسرائيلي بين متعاطف معهم، مطالب بحقوقهم ودمجهم في المجتمع الإسرائيلي، ومعارض لذلك.
لم تنحصر تداعيات الانسحاب الإسرائيلي عام 2000 على لبنان، بل تجلت أيضاً على الساحة 
الفلسطينية، وفي تقدير عدد من الإسرائيليين أن هذا الانسحاب هو الذي شجع القيادة الفلسطينية على خوض انتفاضة الأقصى التي اندلعت في سبتمبر/ أيلول 2000 ولم تتوقف حتى 2008. وتأخذ دروس الانسحاب الإسرائيلي من لبنان أهمية خاصة في هذا الوقت مع عودة الكلام الإسرائيلي عن إمكانية توجيه ضربة لتعاظم قوة حزب الله العسكرية، واستغلال الانهيار المالي الذي يواجهه لبنان لتشديد الضغوط الدولية عليه، وإجباره على لجم نفوذ حزب الله السياسي. ويبدو هذا كله تكراراً لسيناريوهات إسرائيلية سابقة، ثبت مرة تلو المرة عدم جدواها، ولأن الذي يدفع الثمن في كل مرة هو الشعب اللبناني، أولاً وأخيراً.
رندة حيدر
رندة حيدر
رندة حيدر
كاتبة وصحافية لبنانية متخصصة في الشؤون الإسرائيلية
رندة حيدر