بعد انتخابات تونس.. الحريات أولاً
كل الأمل في ألا تخذلنا تونس، وأن تقدم انتخاباتها صورة لمسار ديمقراطي قابل للاستمرار، وأن يقدم إعلام هذه الانتخابات، بشكل خاص، تمريناً إيجابياً إضافياً على كيفية تمثيل مختلف الأطراف، في استحقاق سياسي مصيري، حيث احتدم الانقسام، وبلغ أعلى مستوياته.
في الانتخابات الأولى التي تلت سقوط نظام بن علي، نجح الإعلام التونسي، إلى حد كبير، في تقديم تغطية مقبولة للاستحقاق الأول من نوعه في تاريخ البلاد. ولم تكن معظم وسائل الإعلام التونسية مستعدة للحدث، ولم تكن لها تجربة سابقة في نقل ما يتعدى البيان الرسمي للنظام. كانت حماسة الصحافيين عاليةً، ومذاق الحرية خاصاً بالنسبة لمن كانوا يختبرون حرية التعبير للمرة الأولى.
خاض الإعلام التونسي غمار تجربة الانتخابات الأولى بتدريبٍ قليل، وحماسة كثيرة. وقد راقب المجتمع المدني أداء الإعلام، وسجل النقاط مع أو ضد. كانت العين الساهرة تراقب إمكانية التزام الإعلام بحيادٍ ما، وتمثيل مختلف الأطراف. تمكن الإعلام التونسي، آنذاك، من تقديم صورة مقبولة للاستحقاق الانتخابي، وإن شابها، بحسب الهيئات المراقبة، مشكلة التركيز المبالغ فيه على الشخصيات السياسية والتحيز السياسي، في بعض الحالات. كانت التجربة الأولى للديمقراطية مربكة، مع وجود أعداد ضخمة من المرشحين، وأحزاب جديدة، لم يكن يعرف عنها الشارع التونسي ولا الإعلام، الكثير.
تخوض البلاد اليوم أول انتخابات تشريعية عادية في مرحلة ما بعد الثورة، في جو مختلف تماماً. حماسة الشارع التونسي للديمقراطية، كما حماسة الإعلام، تراجعت مع تعقد الأوضاع الداخلية وتأزمها، والشعور المتزايد لدى المواطن بأن الثورة لم تقدم ثمارها المرجوة في العدالة الاجتماعية ولقمة العيش الكريمة للجميع. تخلص الإعلام التونسي من قيود نظام بن علي إلى حد كبير، إلا أنه لم يتخلص من ولاءاته السياسية ومفهومه لدوره منبراً لهذه الولاءات. حول الانقسام السياسي الحاد بين المعسكرين الإسلامي والعلماني الإعلام منبراً أساسياً له، وصار الحديث عن إعلام محايد، أمراً لا يمكن أن ينطبق على الواقع.
بإمكان تونس أن تفخر بأنها قدمت للعالم العربي نموذجاً ناجحاً، إلى حد ما، لانتقال ديمقراطي، استطاع أن يجمع تناقضات المجتمع التونسي، في آلية سياسية فاعلة وجامعة للاتجاهات المتناقضة إلى حد مقبول. لا يمكن التكهّن بنتائج هذه الانتخابات، إلا أن الأمل في أن تكون الطبقة السياسية قد استفادت من دروس سنوات ما بعد الثورة الثلاث، لتدرك أن التمسك بأسلوب الحكم عبر التسوية هو السبيل الوحيد لضمان استمرارية المسار السياسي، في ظل تفتت المشهد السياسي الداخلي. ولعل ذلك التفتت أحد أبرز الميزات الإيجابية لعملية الانتقال التونسي، حيث لا يقدر أي طرفٍ أن يفرض نفسه حاكماً أحادياً للبلاد.
تنعقد الانتخابات، اليوم، في أجواء مختلفة عن سابقتها، وعلى خلفية اتهامات من الرئيس التونسي، منصف المرزوقي، للإعلام المحلي بالفساد والكذب، وهو ما أثار حملة إعلامية واسعة ضده. تأتي الانتخابات وسط تصاعد عداء هذا الإعلام المحلي لحركة النهضة والترويكا الممثلة للأغلبية البرلمانية. وليس واضحاً ما إذا كان هذا العداء مرده رغبة الإعلام في ممارسة دور الرقيب، أو تأثره بموجة العداء للأحزاب الإسلامية، والتي تصاعدت نبرتها في المنطقة، بعد الانقلاب العسكري في مصر ضد حكومة الإخوان المسلمين، وحملة القمع التي تلت ذلك ضد الجماعة وأنصارها.
كل الخوف أن يعيد الإعلام التونسي ما بعد الانتخابات إنتاج إعلام المنتصر ضد المغلوب، ليتحول من الانقسام السياسي الحاد الراهن إلى التحريض، ومنه إلى إعلام الانتقام والتشفي، مكرراً، ولو بصيغ أكثر مهنية، ما وقع فيه الإعلام المصري بعد الانقلاب. كل الخوف في حال تغيرت موازين القوى في الانتخابات، أن يروج إعلام الغالب مقولة: الأمن القومي فوق اعتبارات حقوق الإنسان والحريات. فيتحول من إعلام معادٍ لفكرة تدخل الحكومة في التضييق على الحريات والحقوق إلى إعلامٍ يصفق لهذا التدخل، عندما يؤدي إلى قمع الخصوم، بحجة الأمن القومي، ويرفضه عندما يتخذ، أو يحاول اتخاذ، إجراءات قمعية ضد الأطراف الأخرى.
شكلت الحريات الإعلامية حديثة العهد في تونس أبرز مكتسبات ثورة الياسمين، وهو مكتسبٌ حماه مجتمع مدني ناشط وديناميكي، إلا أن الرد الخجول للإعلام والمجتمع المدني على قرار الحكومة، مؤخراً، إغلاق مساجد وجمعيات دينية ووسائل إعلامية، بعنوان محاربة الإرهاب، يشكل مؤشراً خطراً على إمكان تدجين الإعلام مجدداً، بحجة الأمن القومي. وإذا ما نجحت حملات التخويف من خطر الإرهاب والإسلاموفوبيا في أن تفعل فعلتها في تدجينه، يكون الإعلام التونسي قد قدم للنظام مجدداً على طبق من فضة ما انتزعه منه بقوة الشارع ونضال مؤسسات المجتمع المدني، في الأعوام الثلاثة الماضية.