بطريركية السيدة وسحرها

03 فبراير 2015
+ الخط -

يروى أن الفارابي قد دخل مجلساً، فعزف لحناً حزيناً أبكى به القوم ثم عزف لحناً آخر فأضحكهم ثم لحناً ثالثاً فأنامهم. لو أننا استبدلنا "الفارابي" بأم كلثوم لكانت الحكاية أكثر متانة. فهذا ما فعلته "كوكب الشرق" تقريباً. لقد كان بين يديها خيط من خيوط سلطة التأثير في الجماهير العربية.

غنّت، فسحرت الجميع بجبروتِها. جبروتُها وهي تقول صائحة "وما نيل المطالب بالتمني، ولكن تأخذ الدنيا غلابا"، أو جبروتها الناعم وهي تقول "خليني في حضنك خليني". ترى، هل يغيب على عين حاكم بروز ظاهرة مثل أم كلثوم؟ الإجابة بالنفي أو الإيجاب، تكشف فروقات جوهرية بين السياسيين. لقد كانت أم كلثوم اختباراً سياسياً بامتياز.

عند قيام ثورة سنة 1952، لم يشفع لأم كلثوم تأييدها، وحاولت أصوات اعتبارها من "العهد البائد"، قبل أن يتفطن جمال عبد الناصر فيوقف عملية عزل أم كلثوم. فعبد الناصر يريد السيطرة على مواقع الحكم، وأم كلثوم كانت من بينها. وهي، من جانبها، التقطت الحبل، وتحوّلت إلى سلاح فعّال بيد الثورة.

"سطوة الأغنية" إلى جانب صعود أم كلثوم قمة الهرم الغنائي، جعل من "كوكب الشرق" سلطةً. أمر لم يكن ليخفى عن أي سلطة أخرى، فلا بأس أن تتحالف السلطات من أجل مصلحة مشتركة. كانت أم كلثوم في الحقيقة قريبة من كل شيء. قريبة من هموم الشعب، كما هي قريبة من رغبات الحكام. وتطوّرت أغنيتها بتطوّر المجتمع، وهو ما لم تحسن فعله مراكز القوة الأخرى.

هكذا أصبحت أم كلثوم بالضرورة جزءاً من منظومة الهيمنة الثقافية. لا يمنع ذلك أن يراها البعض بلسماً للنفوس أو أفضل من يشرف على تربية الروح على النغم الجميل. ولكنّ بعضاً آخر بدأ يرى فيها "غذاءً تنويمياً" عرفته الشعوب العربية فاستهلكته بكثافة في سنوات هزائمها. ولعل موجة الأغنية الملتزمة التي انطلقت بعيد النكسة تمثل محاولة للقطع مع "أم كلثوم" وهيمنتها.

لقد تضخمت "أنا" نجوم الطرب العربي، فلم تعد ترضى أن تشارك في فن جماعي كالذي ظهر في مشروع سيد درويش. إننا حين نزيح عن أعيننا مشاعر الحب والتقدير التي نكنّها لمحمد عبد الوهاب وأم كلثوم سنكتشف أن هذين الاسمين هما أبرز من دفع باتجاه جعل نمط "الأغنية" نمطاً موسيقياً أوحد.

وقد كان الذهاب نحو التعقيد الموسيقي، باسم التميّز والتنافس، وسيلةً لفرض هذه الرؤية. إذ أصبح الفنان في سماء لا ينزل للأرض، وكأنه يعبّر عن نزعات طبقية. وتم في الأثناء تضخيم "الأغنية العاطفية" حتى تحوّلت "الأغنية" إلى طابورين: أغنية وطنية في المناسبات، وأغنية عاطفية في بقية أيام الروزنامة. بينما وُضعت الأغنية الاجتماعية في الهامش، تواجه مصير الفقر وقلة الاهتمام الإعلامي.

إن النظر في عبقرية أم كلثوم الفنية، وهو جزء من ظاهرتها لا غير، حَجَب عمليات توظيف هذه العبقرية. لقد تموضعت أم كلثوم أثناء عقود هيمنتها وسطوتها في مناطق ما فوق النقد. ظنّ البعض أنه لم يعد ممكناً أن يظهر صوت في حجم صوتها. تماماً كما يُعتقد أن زمنها لن يتكرر.

سقط الجميع في الاعتقادات، وأن أفضل ما يستطيعه العرب قد تحقّق وبذلك منعوا أنفسهم من التجديد الموسيقي. ولم يعد أحد يعرف هل يحبّ أم كلثوم بالفعل أم أنه ورث حبّها فأخذه كما هو؟ حتى أن أجيالاً لا تسمح لأجيال أخرى بألا تستسيغها.

ما الذي يمنعنا من نقد أم كلثوم؟ هل إنه حب متضخّم مركّب على تناقضاتٍ وشعور بالضعف أم سذاجة وكسل فكري؟ أم تراه خوفاً من شيء ما يعيقنا عن كشف ميكانيزمات البطريركية التي تحكم مجتمعاتنا، تلك "البطريركية التي هي في إحدى تمظهراتها: الإجماع الصامت المبنيّ على الطاعة والقمع" كما يقول هشام شرابي؟ ترى، ما الذي يسعدنا في بطريركية أم كلثوم؟

لقد مرّت كل العقول العربية من "جهاز الأغنية" الذي كانت أم كلثوم أكثر من صقّله. مرّ زمن وما زال نمط "الأغنية" مهيمناً على الذائقة الموسيقية العربية، ولم يزعزع سطوة الأغنية سوى سطوة جديدة: سطوة الصورة في زمن العولمة.. اندمجت الأغنية بالصورة فخرج زمن "الفيديو كليب". لكن أم كلثوم ما زالت تحتفظ ببريق ساطع حتى في صور الأبيض والأسود.

* كاتب وصحافي من تونس

المساهمون