بطء تنفيذ استراتيجيات ما بعد النفط

28 فبراير 2015

من مواقع تكرير النفط لشركة آرامكو في السعودية

+ الخط -
على الرغم من قيام الدول العربية النفطية، وخصوصاً دول مجلس التعاون الخليجي، بتطوير استراتيجيات طويلة الأجل، لمواجهة حقبة انتهاء عصر النفط، وتحقيق التنويع الاقتصادي العمودي والأفقي، الذي يضمن استمرار ازدهارها، كي لا يتحول انتهاء عصر النفط إلى موسم للقحط. وبينما تعاني الدول العربية النفطية الثلاث، العراق وليبيا والجزائر، من عدم استقرار داخلي، يشغل حكوماتها عن تطوير استراتيجيات ما بعد النفط، ويضعف قدرتها على تطبيقها، في حال وضعها. فإن النجاح والتقدم في تطبيق تلك الاستراتيجيات في بقية البلدان مازال محدوداً، وإن كان بنسب متفاوتة، وقد تكون الإمارات العربية المتحدة الدولة التي حققت بعض النجاح أكثر من غيرها.

التقدم بطيء، على الرغم من الفوائض النفطية الهائلة التي تحققت للبلدان العربية على مدى عقد بين 2003 و2013. وكما هو مبين في الجدول رقم (1)، بلغت صادرات النفط لعام 2011 وحدها 778 مليار دولار، وتجاوزت صادرات 2012 ال 800 مليار دولار. وعلى الرغم من ذلك، مازال ناتج قطاع التعدين والصناعات الاستخراجية في هذه البلدان يشكل أكثر من 50% من ناتجها المحلي الإجمالي، ومازالت صادراتها من الوقود المعدني تشكل نحو 75% من مجمل صادراتها، كما ويشكل الجزء الأكبر من إيراداتها من العملات الصعبة، كما أن نشاطات قطاعاتها غير النفطية تعتمد، إلى حد بعيد، على قطاع النفط وسعر الطاقة المدعوم.

لقد أغرى الاحتياطي الكبير من النفط والغاز ومعدلات الإنتاج المرتفعة التي تسد الاحتياج المحلي المتزايد، وتصدير الجزء الأكبر منه بأسعار مرتفعة، بقيت تدور حول مائة دولار

للبرميل عدة سنوات، في مقابل تكاليف إنتاج محدودة، لا تزيد عن عشرة دولارات للبرميل الواحد، ما يحقق فائضاً ريعياً كبيراً، كل هذا أغرى دوله للاعتماد على النفط والغاز اعتماداً كلياً، فأصبح مصير بلدانه مرتبطاً بمصيره، ما لم يتم استخدام موارده لتطوير بدائل قابلة للديمومة.

فمن المعروف أن الدول العربية النفطية تتمتع باحتياطي نفطي كبير، وتأتي السعودية في المقدمة باحتياطي يقدر ب 260 مليار برميل، وهي تملك أكبر احتياطي في العالم، تليها العراق باحتياطي يقدر ب 141.1 مليار برميل، ويقدر أن لديها احتياطيات أكبر من ذلك لم تكتشف بعد. وتتعادل الكويت والإمارات باحتياطي يقدر بنحو 100 مليار برميل، وتأتي بعدها ليبيا باحتياطي يقدر ب 48. مليار  برميل، ثم قطر باحتياطي 25.9 مليار برميل، أما احتياطي بقية الدول العربية فلا يشكل ثقلاً كبيراً، غير أن احتياطيات الغاز هي الأخرى كبيرة، وتأتي قطر في المقدمة باحتياطي 24400 مليار م3، تليها السعودية باحتياطي يقدر ب 8234 مليار م3، تلهيا الإمارات باحتياطي يقدر ب 6091 مليار م3، تليها الجزائر باحتياطي يقدر ب 4504 مليار م3، ثم العراق باحتياطي يقدر ب3158 مليار م3، تليها الكويت باحتياطي يقدر ب 1782 مليار م3، ثم ليبيا باحتياطي يقدر ب 1582 مليار م3، فعمان باحتياطي يقدر ب918 مليار م3، ثم البحرين باحتياطي يقدر ب 92 مليار م3.



أسعار وإنفاق

اعتمد النمو الاقتصادي الكبير في الإنفاق العام في دول النفط العربية على أسعار النفط المتصاعدة بين 2003-2013، وقد بقي الإنفاق الحكومي وتمويل المشاريع الخدمية الضخمة وتمويل دعم الخدمات الحكومية السخية، بقيت معتمدة على إنتاج النفط وأسعاره المرتفعة. لذا، مازالت اقتصاديات هذه البلدان تتأثر كثيراً بتذبذبات أسعار النفط، فمع انخفاض أسعار النفط عام 2014 اضطرت هذه البلدان لتخفيض إنفاق موازناتها العامة، وإلغاء بعض المشروعات التنموية، والسحب من الاحتياطي لسد العجز. ويؤدي هذا كله إلى تراجع في معدلات النمو. فإن بقي الأمر بهذا الشكل، سيأتي يوم نضوب النفط من دون أن تكون هذه البلدان قد امتلكت قطاعات بديلة، وسيتحول موسم انتهاء عصر النفط إلى موسم للقحط.

أظهر انخفاض أسعار النفط خلال 2014 أن تنفيذ استراتيجيات ما بعد عصر النفط يتفاوت بين دولة وأخرى، وعلى الرغم من التقدم في قطاعات صناعية والخدمية في بعض البلدان، وخصوصاً الإمارات والسعودية، فقد بقي تقدم تنفيذ استراتيجيات ما بعد النفط يسير ببطء، وحتى القطاعات الاقتصادية خارج قطاع النفط، والتي شهدت نمواً في بعض هذه البلدان، مثل قطاع النقل الجوي وصناعات الإسمنت وصهر الألمنيوم وصناعاته والصناعات البتروكيماوية، وغيرها من صناعات، إنما تعتمد على طاقة رخيصة، ما يعني أن هذه القطاعات سيصيبها

التدهور، أيضاً، مع اقتراب انتهاء عصر النفط، حيث لن يبقى في الإمكان تقديم طاقة رخيصة. وبالتالي، يعيد انخفاص أسعار النفط عام 2014 وضع مسألة انتهاء عصر النفط، وتقدم تنفيذ استراتيجياته على طاولة الحكومات ومتخذي القرار في هذه الدول.

من جانب آخر، مازال اهتمام الحكومات يتركز، مع كل أزمة نفط، على الجانب النقدي قصير الأجل، مثل عجز الموازنة وأثرها على العملات الصعبة، وعلى سعر الصرف واحتياطيات النقد الأجنبي. من جانب آخر، يتم استثمار الفوائض في الصناديق السيادية في سندات الخزينة الأميركية، أو في استثمارات منتجة في الخارج، تضمن بعض الإيراد في المستقبل، لكنها لا تخلق طاقات اقتصادية محلية وطنية بديلة. بينما يعد استخراج النفط والغاز من الأرض كمن يمد يده على مدخراته، فينفق منها، لأنها مصادر محدودة قابلة للنضوب، فمن أنفقها كلها على استهلاكه ذهبت إلى غير عودة، ومن أنفق جزءاً منها لإيجاد طاقات تخلق عائداً بعد فترة نضوب النفط، يكون قد ضمن مستقبله، حيث سيأتي يوم، ولو مازال بعيداً بعض الشيء، لن يوجد فيه مزيد من النفط للتصدير. فأي استخراج إضافي إنما يعني تحويل الثروة النفطية من باطن الأرض إلى دولارات، لتمويل نزعة استهلاكية، تحرضها مصالح الشركات وتروجها وسائل الدعاية والإعلان، أو تودع في مصارف الدول الكبرى، أم يشترى بها سندات خزينة أميركية غير قابلة للسداد في واقع الحال. من هنا، كل برميل نفط يستخرج من تحت الأرض يجب أن يحول إلى طاقة إنتاجية فوق سطح الأرض. فليس من الضروري أن تزيد الدول العربية المنتجة للنفط إنتاجها، فقط لتلبية احتياجات السوق العالمية، بل أن تنتج ما يلبي احتياجات برامجها التنموية، وتحتفظ باحتياطياتها للسنوات المقبلة التي سيتراجع فيها إنتاج المناطق الأخرى في العالم، ما يرفع أسعاره بشكل كبير.



فائض واستهلاك
لا يعني موعد نضوب النفط أنه سيحدث يوم إنتاج آخر برميل، بل يعني أنه سيحدث تدريجياً وتظهر آثاره تدريجياً قبل ذلك اليوم بسنوات، إذ سيبدأ عندما يصبح الفائض من النفط عن الاستهلاك المحلي يشكل الجزء الأصغر من الإنتاج، وسيحدث هذا بسبب معدلات الاستهلاك المحلي المرتفعة للطاقة، وخصوصاً في بلدان مجلس التعاون، فلا يبقى حينها كمية كافية للتصدير تسد احتياجات الاقتصاد الوطني وإيرادات الخزينة العامة.

يظهر الجدول رقم (2) مقارنة بين معدل استهلاك الفرد الواحد من الطاقة لعام 2012 بين بلدان مجلس التعاون وبلدان بقية البلدان العربية، ويظهر لنا الفارق الكبير بينهما، حيث يبلغ وسطي استهلاك الفرد من الطاقة في اليوم في بلدان مجلس التعاون نحو 17% من برميل النفط المكافئ يومياً (نحو 27 ليتر نفط مكافئ في اليوم) بينما يبلغ وسطي بقية البلدان العربية 0.21% برميل نفط مكافئ يومياً (نحو 3.3 ليتر نفط مكافئ في اليوم). أي أن معدل استهلاك الفرد في دول مجلس التعاون يزيد بنحو ثماني مرات عن نظيره في بقية الدول العربية. وبالطبع، إن جزءاً كبيراً من استهلاك دول مجلس التعاون هو استهلاك إنتاجي. لكن، يبقى الاستهلاك غير الانتاجي مرتفعاً أيضاً. واستمرار معدلات الاستهلاك المرتفعة، بما فيها معدلات استهلاك الطاقة، ستلتهم فائض التصدير، كما ستلتهم الفوائض المالية المخصصة للتنمية، وخلق طاقات بديلة.

من جهة أخرى، وعلى الرغم من أن مسألة ما بعد عصر النفط يشغل بال الحكومات واهتمام صانعي القرار، فإنه لا يجد اهتماماً كبيراً من الرأي العام وقطاع الأعمال، ومن وسائل الإعلام، على الرغم من أن الحفاظ على هذا الموضوع حاضر في اهتمامات الرأي العام يساعد الحكومات في تطبيق سياساتها، لترشيد الطاقة ورفع أسعارها، لو رغبت.

حتى لو وجدت استراتيجيات لمواجهة عصر ما بعد النفط، فهي تتطلب برامج تطبيقية فعالة على الأرض، لتطوير قطاعات اقتصادية فرعية صناعية أو خدمية محددة بديلة، قابلة للديمومة، بدون سعر طاقة رخيص. وهذا يعني رفع أسعار الطاقة في هذه البلدان، غير أن رفع أسعار الطاقة وترشيد استهلاكها، ومواجهة نمط الاستهلاك المفرط، غير القابل للديمومة في هذه البلدان، يشكل عقبة أمام الحكومات التي تسعى إلى نيل رضى مواطنيها اليوم.

اختيار القطاعات التي يتم التركيز عليها لتشكل قطاعات إنتاج سلعي، أو خدمي، بديلة منافسة مع غياب طاقة رخيصة، في بيئة حارة تتطلب استعمال مزيد من الطاقة، لتكييف المباني والبيوت والمكاتب والأسواق، إضافة إلى السيارات الكبيرة الشرهة للوقود وغيرها، هي مسألة في غاية الصعوبة، وخصوصاً في دول مجلس التعاون، إذ لا يكفي توفير الأموال لقيامها، فثمة عوامل أخرى كثيرة لتحقيق النمو، أهمها تأمين الأسواق عبر قدرة تنافسية عالية، وتدخل في التنافسية عوامل عديدة، ومنها توفير يد عاملة وطنية مدربة، وبإنتاجية أعلى وتكلفة مناسبة. ولن يكون من السهل منافسة قوى بازغة، كالصين، بيدها العاملة الماهرة وتكاليفها المنخفضة، أو منافسة خدمات الهند، في مقابل نقص اليد العاملة الوطنية، بسبب انخفاض أعداد المواطنين من جهة، وبسبب نمط الحياة المترف الذي يعيشه شبابهم، ما يدفعهم إلى العزوف عن العمل المجهد المنتج.

ولا يمكن تطوير قطاعات اقتصادية بدون تأمين يد عاملة وطنية، مؤهلة ومدربة بأعداد كافية، حتى لو تمت الاستعانة، نسبياً، بقوة عمل أجنبية. ولكن، لا بد أن تكون المساهمة الرئيسية لقوة العمل الوطنية. هنا، تأخذ سياسات زيادة أعداد السكان واجتراح حلول إبداعية أهمية قصوى، على الرغم من أن تحقيقها ليس أمراً سهلاً أيضاً. أما البلدان العربية النفطية التي تتوفر على يد عاملة، مثل العراق والجزائر ثم ليبيا، فإنها تعاني من مشكلات تشغلها وتعيقها عن أي جهد تنموي حقيقي.

ما زالت استراتيجيات ما بعد النفط في الدول العربية النفطية تسير ببطء، وإن بسرعات متفاوتة بين بلد وآخر، بينما الزمن يمضي، وعلى الرغم من الصعوبات التي تواجهها، فهي قدر لا مفر منه، ما يتطلب بذل جهود مضنية، واتخاذ قرارات صعبة.