19 أكتوبر 2019
بريطانيا والاتحاد الأوروبي والوضع الراهن
بعد مضي أربعة أشهر على الاستفتاء الشعبي بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لم يتضح بعد موقف الحكومة البريطانية. وهي بهذا وفية لسياستها التقليدية حيال الاتحاد؛ قدم في الداخل والأخرى في الخارج.
تردّدها دلالة على تخبطها في محنة سياسية، فعلى الرغم من الاستعجال في استفتاء الشعب، لأغراض انتخابية بالأساس، لم تحضّر الحكومة البريطانية نفسها لهذه النتيجة، ما يعبر عن خلل في أدائها السياسي، وعن عجز واضح في التخطيط لإدارة مرحلة ما بعد الاستفتاء. وبغض النظر عن حسابات المصالح في هذا التردّد، من الواضح أن حكام البلاد أساءوا إدارة الاستفتاء وتبعاته السياسية. ولعب معظمهم بالنار، ولما تحقق الأمر تراجعوا عن وعودهم السابقة، ويعملون على التهوين من تبعات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
يتخوّف المسؤولون البريطانيون من الخسائر الاقتصادية التي ستلحق ببلادهم جرّاء مغادرتهم الاتحاد الأوروبي. لذا، يؤجلون المفاوضات، ويرفضون الالتزام بأجندة محدّدة قصد الضغط على الاتحاد الأوروبي، لتقديم تنازلاتٍ في المفاوضات المقبلة. إذا كانت بريطانيا تريد الانفصال عن الاتحاد، فإنها لا تريد أن تعود علاقتها معه إلى نقطة البداية، فهي تريد أن تستفيد من عضويتها السابقة، للحصول على علاقةٍ مميزة معه خدمةً لمصلحتها الاقتصادية. وهنا، تكمن معضلتها، فهي لا ترغب في الاتحاد الأوروبي، وفي الوقت نفسه تريده. إذ تسعى للحفاظ على مزايا العضوية من دون تبعاتها والتزاماتها. ستكون مهمة المفاوضين البريطانيين شاقة مع الاتحاد الأوروبي، في إقناعهم بصيغة توفيقية تكون منزلة بين المنزلتين، لا عضوية، ولكن لا عودة إلى نقطة البداية، والتفاوض على كل شيء من جديد.
قبل الخوض في هذه المفاوضات، يجب وضع حد للتردّد البريطاني، فالحكومة الجديدة تؤكد على ضرورة احترام الشعب، لكنها ترفض التقدم رسمياً بطلب الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، عملاً بالمادة 50 من معاهدة لشبونة الأوروبية. ومن الناحية القانونية، بدون الطلب الرسمي البريطاني، وفق الشروط المنصوص عليها في هذه المعاهدة، فإن لا شيء سيتغير، وإن كان الوضع الراهن غير محتمل سياسياً وحتى اقتصادياً (الأسواق، لاسيما المالية بحاجة إلى رؤية واضحة في هذا المجال). وربما هذا ما يخيف الحكومة البريطانية، خصوصاً أن الأوساط المالية الكبرى في لندن هدّدت، قبل الاستفتاء، بنقل نشاطها إلى دول الاتحاد الأوروبي، في حال التصويت للخروج منه. وعليه، الحكومة البريطانية في مأزق، فهي موجودة بين مطرقة نتيجة الاستفتاء الشعبي (وضرورة احترام إرادة الشعب) وسندان الأوساط المالية والاقتصادية المعارضة للخروج منه.
بالطبع، ليست بريطانيا وحدها من يحاول تأجيل ما هو آتٍ (لا محال)، فهناك دول أوروبية ترفض التسرع في المفاوضات، ليس حباً في بريطانيا، ولكن خوفاً على الاتحاد الأوروبي. فهي ترى أن خروجها السريع قد يشجّع دولاً أخرى على السير على خطاها، لكنها محقة جزئياً فقط. صحيح أن الخروج السريع والسلس قد يدفع دولاً أوروبية إلى الاحتكام إلى الإرادة الشعبية لمغادرة الاتحاد الأوروبي، لكن بريطانيا تبقى حالة استثنائية، ذلك أن المشاعر المناوئة للاتحاد الأوروبي قديمة ومترسخة فيها، وأن حكامها لعبوا دائماً بالنار، في سياستهم وحملاتهم الانتخابية، بتحميلهم الاتحاد الأوروبي الجزء الأكبر من فشلهم السياسي، بل كان حتى تنظيم الاستفتاء لأغراض انتخابية بالأساس، فرئيس الحكومة السابق، ديفيد كاميرون، وعد بتنظيمه للفوز بالانتخابات. إذن، هناك خلفية سياسية قديمة في بريطانيا، لا مثيل لها في باقي دول الاتحاد الأوروبي. فضلاً عن ذلك، لم يسبق أن طالب أي حزب حاكم في دول الاتحاد (باستثناء بريطانيا) بالخروج من الاتحاد، فالمطالب كانت، ولا زالت، تأتي من تيارات اليمين المتطرّف.
وهناك دول أخرى تقول العكس، تريد خروج بريطانيا بسرعة، خوفاً على الاتحاد الأوروبي. لكن، لأسباب أخرى، فهي ترى أن حالة التريّث والتردّد الحالي غير محتملة، ومضرّة بمصداقية الاتحاد الأوروبي، لأنها تعطي الانطباع بأنه لم يحرّك ساكناً، على الرغم من نتيجة الاستفتاء في بريطانيا، كما أنها تريد أن يبعث الاتحاد رسالةً قويةً من خلال مفاوضات جادة، وصارمة الشروط، فحواها أن الخروج من الاتحاد الأوروبي ليس أمراً هيناً، بل سيكون صعباً ومكلفاً. وبالتالي، تراهن تلك الدول على الصعوبات الاقتصادية التي ستواجهها بريطانيا، عقب خروجها من الاتحاد، لتستخدمها حجة دامغة ضد كل من قد يفكر في مغادرة الاتحاد. أي أنها تريد أن تقتنع الأطراف التي قد تكون متردّدة، من خلال النموذج البريطاني، بأن الانسحاب من الاتحاد سيكون مكلفاً لها، فبعض دول الاتحاد مستعجلة لطي هذه الصفحة، لإنهاء العمل بالاتفاقات السابقة حول بعض القضايا مثل الهجرة. ففرنسا مثلاً تريد تسريع عملية خروج بريطانيا، لإعادة النظر في الاتفاقات المتعلقة بالهجرة. أما بعض دول أوروبا الشرقية فمهتمة بمصير جاليتها التي تعيش في بريطانيا. وربما رفض بريطانيا اقتراح موعد محدد لمفاوضات الانسحاب يعود، بالأساس، إلى هذه الاستحقاقات والشروط التي تنتظرها من أوروبا، دولاً واتحاداً.
لكن بريطانيا لم تحرّك ساكناً إلى حد الآن، وبدون طلبها الانسحاب، بموجب المادة 50 من معاهدة لشبونة، فلا شيء سيحدث. بيد أن هذه الحالة غير محتملة. ومن غير المستبعد أن يفكّر الأوروبيون مستقبلاً في تعديل هذه المادة، بتحديد مهلة زمنية للطرف الذي يريد الانسحاب، ليتقدم بالطلب الرسمي، وإن لم يفعل، بعد انقضائها، يحق للاتحاد أن يعلن تفعيل المادة، ويجبر البلد المعني على الشروع في مفاوضات الخروج.
تردّدها دلالة على تخبطها في محنة سياسية، فعلى الرغم من الاستعجال في استفتاء الشعب، لأغراض انتخابية بالأساس، لم تحضّر الحكومة البريطانية نفسها لهذه النتيجة، ما يعبر عن خلل في أدائها السياسي، وعن عجز واضح في التخطيط لإدارة مرحلة ما بعد الاستفتاء. وبغض النظر عن حسابات المصالح في هذا التردّد، من الواضح أن حكام البلاد أساءوا إدارة الاستفتاء وتبعاته السياسية. ولعب معظمهم بالنار، ولما تحقق الأمر تراجعوا عن وعودهم السابقة، ويعملون على التهوين من تبعات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
يتخوّف المسؤولون البريطانيون من الخسائر الاقتصادية التي ستلحق ببلادهم جرّاء مغادرتهم الاتحاد الأوروبي. لذا، يؤجلون المفاوضات، ويرفضون الالتزام بأجندة محدّدة قصد الضغط على الاتحاد الأوروبي، لتقديم تنازلاتٍ في المفاوضات المقبلة. إذا كانت بريطانيا تريد الانفصال عن الاتحاد، فإنها لا تريد أن تعود علاقتها معه إلى نقطة البداية، فهي تريد أن تستفيد من عضويتها السابقة، للحصول على علاقةٍ مميزة معه خدمةً لمصلحتها الاقتصادية. وهنا، تكمن معضلتها، فهي لا ترغب في الاتحاد الأوروبي، وفي الوقت نفسه تريده. إذ تسعى للحفاظ على مزايا العضوية من دون تبعاتها والتزاماتها. ستكون مهمة المفاوضين البريطانيين شاقة مع الاتحاد الأوروبي، في إقناعهم بصيغة توفيقية تكون منزلة بين المنزلتين، لا عضوية، ولكن لا عودة إلى نقطة البداية، والتفاوض على كل شيء من جديد.
قبل الخوض في هذه المفاوضات، يجب وضع حد للتردّد البريطاني، فالحكومة الجديدة تؤكد على ضرورة احترام الشعب، لكنها ترفض التقدم رسمياً بطلب الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، عملاً بالمادة 50 من معاهدة لشبونة الأوروبية. ومن الناحية القانونية، بدون الطلب الرسمي البريطاني، وفق الشروط المنصوص عليها في هذه المعاهدة، فإن لا شيء سيتغير، وإن كان الوضع الراهن غير محتمل سياسياً وحتى اقتصادياً (الأسواق، لاسيما المالية بحاجة إلى رؤية واضحة في هذا المجال). وربما هذا ما يخيف الحكومة البريطانية، خصوصاً أن الأوساط المالية الكبرى في لندن هدّدت، قبل الاستفتاء، بنقل نشاطها إلى دول الاتحاد الأوروبي، في حال التصويت للخروج منه. وعليه، الحكومة البريطانية في مأزق، فهي موجودة بين مطرقة نتيجة الاستفتاء الشعبي (وضرورة احترام إرادة الشعب) وسندان الأوساط المالية والاقتصادية المعارضة للخروج منه.
بالطبع، ليست بريطانيا وحدها من يحاول تأجيل ما هو آتٍ (لا محال)، فهناك دول أوروبية ترفض التسرع في المفاوضات، ليس حباً في بريطانيا، ولكن خوفاً على الاتحاد الأوروبي. فهي ترى أن خروجها السريع قد يشجّع دولاً أخرى على السير على خطاها، لكنها محقة جزئياً فقط. صحيح أن الخروج السريع والسلس قد يدفع دولاً أوروبية إلى الاحتكام إلى الإرادة الشعبية لمغادرة الاتحاد الأوروبي، لكن بريطانيا تبقى حالة استثنائية، ذلك أن المشاعر المناوئة للاتحاد الأوروبي قديمة ومترسخة فيها، وأن حكامها لعبوا دائماً بالنار، في سياستهم وحملاتهم الانتخابية، بتحميلهم الاتحاد الأوروبي الجزء الأكبر من فشلهم السياسي، بل كان حتى تنظيم الاستفتاء لأغراض انتخابية بالأساس، فرئيس الحكومة السابق، ديفيد كاميرون، وعد بتنظيمه للفوز بالانتخابات. إذن، هناك خلفية سياسية قديمة في بريطانيا، لا مثيل لها في باقي دول الاتحاد الأوروبي. فضلاً عن ذلك، لم يسبق أن طالب أي حزب حاكم في دول الاتحاد (باستثناء بريطانيا) بالخروج من الاتحاد، فالمطالب كانت، ولا زالت، تأتي من تيارات اليمين المتطرّف.
وهناك دول أخرى تقول العكس، تريد خروج بريطانيا بسرعة، خوفاً على الاتحاد الأوروبي. لكن، لأسباب أخرى، فهي ترى أن حالة التريّث والتردّد الحالي غير محتملة، ومضرّة بمصداقية الاتحاد الأوروبي، لأنها تعطي الانطباع بأنه لم يحرّك ساكناً، على الرغم من نتيجة الاستفتاء في بريطانيا، كما أنها تريد أن يبعث الاتحاد رسالةً قويةً من خلال مفاوضات جادة، وصارمة الشروط، فحواها أن الخروج من الاتحاد الأوروبي ليس أمراً هيناً، بل سيكون صعباً ومكلفاً. وبالتالي، تراهن تلك الدول على الصعوبات الاقتصادية التي ستواجهها بريطانيا، عقب خروجها من الاتحاد، لتستخدمها حجة دامغة ضد كل من قد يفكر في مغادرة الاتحاد. أي أنها تريد أن تقتنع الأطراف التي قد تكون متردّدة، من خلال النموذج البريطاني، بأن الانسحاب من الاتحاد سيكون مكلفاً لها، فبعض دول الاتحاد مستعجلة لطي هذه الصفحة، لإنهاء العمل بالاتفاقات السابقة حول بعض القضايا مثل الهجرة. ففرنسا مثلاً تريد تسريع عملية خروج بريطانيا، لإعادة النظر في الاتفاقات المتعلقة بالهجرة. أما بعض دول أوروبا الشرقية فمهتمة بمصير جاليتها التي تعيش في بريطانيا. وربما رفض بريطانيا اقتراح موعد محدد لمفاوضات الانسحاب يعود، بالأساس، إلى هذه الاستحقاقات والشروط التي تنتظرها من أوروبا، دولاً واتحاداً.
لكن بريطانيا لم تحرّك ساكناً إلى حد الآن، وبدون طلبها الانسحاب، بموجب المادة 50 من معاهدة لشبونة، فلا شيء سيحدث. بيد أن هذه الحالة غير محتملة. ومن غير المستبعد أن يفكّر الأوروبيون مستقبلاً في تعديل هذه المادة، بتحديد مهلة زمنية للطرف الذي يريد الانسحاب، ليتقدم بالطلب الرسمي، وإن لم يفعل، بعد انقضائها، يحق للاتحاد أن يعلن تفعيل المادة، ويجبر البلد المعني على الشروع في مفاوضات الخروج.