بريطانيا... الطريق الصعب إلى الاستفتاء الأوروبي الثاني

17 يونيو 2016
يتذرع أنصار الخروج من الاتحاد بحجج عدة(بول أليس/فرانس برس)
+ الخط -
بعد قرابة 41 عاماً، ستكون بريطانيا، في الثالث والعشرين من يونيو/ حزيران الجاري، على موعد مع استفتاء شعبي ثانٍ يحدد علاقتها بالمجموعة الأوروبية، ويحسم بقاء المملكة المتحدة عضواً في الاتحاد الأوروبي أو الخروج منه. 
فقبل أكثر من 4 عقود، وتحديداً في العام 1973 انضمت بريطانيا للمجموعة الأوروبية قبل أن يصوت البريطانيون في العام 1975 في استفتاء شعبي، وبأغلبية الثلثين، لصالح البقاء في المجموعة. إلا أن تحولات عدة داخل بريطانيا، وخصوصاً في السنوات الأخيرة، مهّدت لجعل العلاقة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي محل اختبار جديد، وسط تصدر ملفات الهجرة والرعاية الاجتماعية، وسيادة بريطانيا، ومنطقة اليورو، أبرز الهواجس ومحاور الانقسام بين مؤيدي ومعارضي البقاء داخل الاتحاد.

وتخشى بريطانيا من هيمنة دول منطقة اليورو الـ17 على القرار في الاتحاد الأوروبي، إذ أصبح الاتحاد النقدي الذي فضلت بريطانيا عدم الانضمام له محور اتخاذ القرار في الاتحاد الأوروبي، وأصبحت جميع القرارات تتطلب تفاوضاً من قبل أعضائه في البداية، ثم يتم عرضها بعد اتفاق الأعضاء في منطقة اليورو على دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة.
كذلك تبرز قضية الهجرة، إذ إنها السبب الرئيسي للانقسام بين الأشخاص المولودين في المملكة المتحدة وبين المهاجرين. وترى بريطانيا أن قوانين الاتحاد الأوروبي هي السبب في تدفق المهاجرين إليها، ما ألقى بضغط هائل على الخدمات العامة، ولا سيما الصحة والتعليم والسكن والنقل. كما أثّر الأمر على مستوى المعيشة والنسيج الاجتماعي للمجتمع البريطاني.

الطريق إلى الاستفتاء

تصدّر مستقبل علاقة بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي برامج الأحزاب البريطانية خلال الانتخابات العامة التي جرت في السابع من مايو/ أيار 2015، ولا سيما بعد "وعد الاستفتاء" الذي أطلقه زعيم حزب المحافظين، ديفيد كاميرون، مُتعهداً بتنظيم استفتاء شعبي قبل نهاية العام 2017 إذا فاز حزبه بالانتخابات. منذ تلك اللحظة، باتت هذه القضية محورية في برامج الأحزاب السبعة التي تنافست آنذاك للفوز بأكبر عدد من مقاعد مجلس العموم.

وقد انتقد حزبا العمال والأحرار الديمقراطي "وعد الاستفتاء" الذي قدمه كاميرون، على أساس أن لا مبرر لاستفتاء شعبي إلا في حالة طلب الاتحاد الأوروبي من حكومة المملكة المتحدة التخلي عن المزيد من سلطاتها الوطنية لصالح المزيد من سلطة الاتحاد.
وفي موقف أكثر وضوحاً، أعلن زعيم حزب العمال آنذاك، إيد ميليباند، أن حزبه لن يُنظم أي استفتاء حول مصير عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، إذا فاز بتشكيل الحكومة.
بعد أيام قليلة من فوز حزب المحافظين في الانتخابات العامة للعام 2015، قدمت الحكومة برئاسة ديفيد كاميرون، مشروع قانون إلى مجلس العموم (البرلمان) يتضمن آليات الاستفتاء حول بقاء البلاد عضواً في الاتحاد الأوروبي أو الخروج منه. وبعد إقراره في البرلمان يوم 10 يونيو/حزيران 2015 بأغلبية ساحقة (544 نائباً وبمعارضة 53 نائباً)، أعلن رئيس الوزراء يوم 23 يونيو/حزيران 2016 موعداً لتنظيم الاستفتاء، ليكون بذلك الاستفتاء الثاني بعد 41 سنة منذ الاستفتاء الأول حول انضمام بريطانيا إلى المجموعة الأوروبية عقب استفتاء العام 1975. وجاء إعلان كاميرون بعد توصل بريطانيا والدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد لاتفاق يمنح بريطانيا وضعاً خاصاً ضمن الاتحاد.
وبعد انتخابه رئيساً للحكومة البريطانية في مايو/ أيار 2015، خاض كاميرون مفاوضات مع دول الاتحاد الأوروبي بحثاً عن "اتفاق تسوية" أو ما كان يسميها "إصلاحات" تساعده في الحفاظ على عضوية بريطانيا في الاتحاد. وتمكن كاميرون، بعد أشهر شاقة، من تحقيق نجاح وصفه بـ"الإنجاز" لأجل بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي بشروط أفضل و"وضع خاص". كما استطاع كاميرون انتزاع صلاحيات سيادية في ملفي الهجرة والرعاية الاجتماعية بالإضافة إلى تعديلات بخصوص العلاقة بين بريطانيا ودول "اليورو".
وفي ملف السيادة الوطنية، توصل كاميرون إلى اتفاق لتعديل المعاهدات القائمة بحيث يكون واضحاً أن الإشارات إلى "اتحاد أوثق من أي وقت مضى" لا تنطبق على المملكة المتحدة. كما حصل كاميرون على تعديل آخر يضمن لأي دولة من الدولة الأعضاء في الاتحاد رفع "البطاقة الحمراء" لإعادة النظر في أي من تشريعات الاتحاد الأوروبي بدعم من 55 في المائة من الدول الـ28 الأعضاء في الاتحاد. وبعد أيام قليلة من توصل الطرفين لـ"اتفاق التسوية" أو "الحد الأدنى" كما وصفه أنصار بقاء بريطانيا في الاتحاد الاوروبي، أو اتفاق "ذر الرماد في العيون" كما وصفه معارضو بقاء بريطانيا في الاتحاد، بادر كاميرون إلى تقديم موعد الاستفتاء الشعبي إلى 23 يونيو/ حزيران الحالي بدلاً من الانتظار حتى خريف العام 2017.
وفي ما يشبه دعوة صريحة للرأي العام البريطاني إلى التصويت لصالح بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، لم يتردد كاميرون بالقول إن "بريطانيا ستكون أقوى وأكثر أمنا داخل الاتحاد".

 

انقسام سياسي وشعبي

انطلقت صباح الخامس عشر من إبريل/ نيسان الماضي الحملات الرسمية للاستفتاء على عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. ومنذ ذلك اليوم تصدر عمدة لندن السابق، بوريس جونسون، حملة "صوت للخروج" التي تدعو إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. كما تلقى الحملة تأييد وزير العدل مايكل جوف، وزعيم مجلس العموم، كريس غرايلنغ.

وعلى الجانب الآخر، يترأس كاميرون حملة "البقاء في الاتحاد". وقد أحدث الاستفتاء حول مصير بريطانيا الأوروبي شرخاً غير مسبوق في صفوف حزب المحافظين الحاكم، ولا سيما بعد انضمام عمدة لندن السابق، النائب المحافظ في مجلس العموم، بوريس جونسون، إلى حملة "خروج" بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ليلتحق بذلك بمجموعة أخرى من الوزراء بينهم وزير العدل، مايكل غوف، ووزير العمل أيان دنكان، وحوالي 80 نائباً خرجوا عن صف كاميرون معارضين بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. وقد شنّ كاميرون هجوماً على الوزراء والنواب المحافظين الذين عبروا عن تأييدهم لانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وخصّ منهم بوريس جونسون الذي يُنظر له كخليفة محتمل لكاميرون، على رأس حزب المحافظين وكرئيس للوزراء، ويُتهم بأن موقفه المُعارض لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، وبالتالي المعارض لتوجهات رئيس الحكومة، إنما يخفي وراءه طموحاته السياسية الشخصية.
على الرغم من ذلك، ووسط خشية تصدّع الحزب أو حدوث انشقاق في صفوف قياداته، اضطر كاميرون إلى منح أعضاء حكومته حرية المشاركة في حملات الدعاية لصالح بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي أو الخروج منه. وبينما يصف البعض خطوة كاميرون بالعقلانية والديمقراطية، يرى فريق آخر في الخطوة "ضربة استباقية" لتفادي "حرب أهلية" داخل حزب المحافظين.
وفي مقابل الانقسام داخل حزب المحافظين، تدعم أحزاب العمال، والأحرار الديمقراطي والقومي الأسكتلندي، والخضر، فضلا عن الأحزاب القومية في ويلز، وأيرلندا الشمالية، بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، ولم يخرج عن إجماع الأحزاب المُمثلة في مجلس العموم، سوى حزب "الاستقلال" اليميني، الذي يدعو بشكل قاطع إلى انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وكما هو حال الحكومة المُنقسمة، يبدو الرأي العام البريطاني متردداً ومُنقسماً كذلك بشأن مصير بلاده في الاتحاد الأوروبي. وقد أظهرت كل استطلاعات الرأي التي جرت منذ سبتمبر/ أيلول الماضي، انقساماً واضحاً داخل المجتمع البريطاني إزاء مصير بريطانيا ومستقبلها الأوروبي.

أنصار الخروج

تدفع مجموعة من الأسباب حوالي 55 في المائة من الناخبين، حسب أحدث استطلاعات الرأي، لتأييد خروج بريطانيا من الاتحاد. ويتخوف هؤلاء على "سيادة" بريطانيا مقابل تغول مؤسسات الاتحاد الأوروبي على مجريات اتخاذ القرار في دول الاتحاد.

كما يرى مناصرو الانسحاب في تفاقم أزمة اللاجئين والمهاجرين، المشكلة الأكبر التي تواجه المجتمع البريطاني. وتعتبر بريطانيا أن قوانين الاتحاد الأوروبي هي السبب في تدفق المهاجرين إليها، مما أثر سلبياً على مستوى المعيشة، وعلى مستوى الخدمات العامة ولا سيما في قطاعات الصحة والتعليم والإسكان والمواصلات.

وقد عززت الأزمة الاقتصادية في منطقة "اليورو" وأزمة اليونان المالية مضافاً إليهما بطء النمو الاقتصادي في معظم دول الاتحاد، نزعة الخروج لدى شريحة واسعة من البريطانيين الذين باتوا يرون في الاتحاد الأوروبي عبئاً يُفضل التخلص منه. ويرى معارضو الاتحاد الأوروبي أن خروج بريطانيا سيجعلها أكثر قدرة وانفتاحاً على الاقتصاد العالمي، بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي.

أنصار البقاء

منذ فوز حزب المحافظين وزعيمه ديفيد كاميرون في الانتخابات البريطانية في السابع من مايو/ أيار 2015، والسؤال يتردد في العواصم الأوروبية حول مستقبل علاقة لندن بأوروبا. وإذا ما كان فوز كاميرون سيعزز بقاء بريطانيا ضمن الاتحاد الأوروبي، أم أنه سيسّرع انفصالها عن الاتحاد. ويتقدم كاميرون حملة "البقاء" في الاتحاد، إذ يرى في بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي مصلحة وطنية أساسية، تُعزز اقتصاد المملكة المتحدة، وأمن الأمة ومكانة بريطانيا في العالم. ويرى كاميرون أن خروج بريطانيا من المجموعة الأوروبية ينطوي على نتائج سلبية على الاقتصاد الوطني ومخاطر جدية على الأمن البريطاني، وأن البقاء ضمن الاتحاد لا يوفر لبريطانيا الأمن الاقتصادي وحسب، بل والأمن القومي.

كذلك، يذهب رئيسا وزراء بريطانيا السابقان جون ميجور وتوني بلير إلى حد التحذير من مخاطر الخروج من الاتحاد الأوروبي على وحدة المملكة المتحدة. وقال ميجور، رئيس وزراء بريطانيا في الفترة بين 1990 إلى 1997 إن "أنجح اتحاد" في تاريخ العالم قد يتفكك إلى الأبد، محذراً من أن يؤدي خروج بريطانيا إلى انفصال اسكتلندا خارج المملكة المتحدة.
من جهته، يرى بلير، أن الاستفتاء قد يقوّض اتفاقية السلام الخاصة بأيرلندا الشمالية الموقعة في العام 1998 والتي أنهت ثلاثة عقود من القتال بين الأيرلنديين الكاثوليك القوميين الذين سعوا لاتحاد الإقليم مع أيرلندا وخصومهم من البروتستانت الذين رغبوا في الإبقاء عليه داخل المملكة المتحدة.
من جهته، يدعم زعيم حزب العمال، جيرمي كوربين، حملة الحزب المؤيدة للبقاء في الاتحاد الأوروبي، تحت شعار "في الاتحاد من أجل بريطانيا"، مشيراً إلى أن "الحملة تهدف إلى البقاء في الاتحاد لحماية حقوق العمال والدفاع عن البيئة في جميع أنحاء أوروبا".
كما تدعم جماعات الضغط المالية والاقتصادية، الأكثر تأثيراً والأقرب من كاميرون، هذا الموقف. وترى أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يمكن أن يضرّ بمكانة لندن بوصفها مركزاً مالياً وتجارياً عالمياً. وتعتبر أوساط المؤيدين للبقاء في الاتحاد الأوروبي أن حاجة بريطانيا الى المهاجرين الأوروبيين، وحاجتها إلى السوق الأوروبية الموحدة، وبالمقابل حاجة أوروبا الى دولة بحجم بريطانيا سياسياً واقتصادياً، كل ذلك يجعل ما يجري لا يتجاوز مجرد "زوبعة في فنجان" أو "تنافس انتخابي"، وأن نتيجة أي استفتاء شعبي حول العلاقة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي لن تختلف عن النتيجة التي أفرزها استفتاء سبتمبر/ أيلول 2014 الخاص بالعلاقة بين أسكتلندا وبريطانيا، فعلاقة بريطانيا مع مجموع الدول الأوروبية لا تقل أهمية عن علاقة أسكتلندا وبريطانيا.

الانقسام يمتد إلى الصحف

في غضون ذلك، امتد الانقسام حول مصير عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي إلى الصحف. وأعلنت صحيفة "ذي صن" البريطانية، يوم الثلاثاء، دعمها لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتحرير البلاد مما سمّته "ديكتاتورية بروكسل" خلال الاستفتاء. وقالت "ذي صن"، وهي أكثر الصحف مبيعاً في بريطانياً، "إن البقاء في الاتحاد الأوروبي سيكون أسوأ للهجرة، وأسوأ لفرص العمل، وأسوأ للأجور، وأسوأ لطريقتنا في الحياة".

وأضافت في افتتاحيتها "هذه هي فرصتنا الأخيرة لنحرر أنفسنا من بروكسل". وناشدت الصحيفة الناخبين البريطانيين " لتصحيح الخطأ التاريخي الفادح في صناديق الاقتراع".

في المقابل، أعلنت صحيفة "التايمز" البريطانية، التي يملكها إمبراطور الإعلام ‏روبرت موردوخ، يوم الأربعاء، دعم حملة بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. وجاء قرار الصحيفة بعدما كشفت استطلاعات الرأي أن ‏معظم قراء التايمز" يؤيدون هذا التوجه.‏