بدرا المُسعِف

27 سبتمبر 2014
(العربي الجديد)
+ الخط -
يرمي بنفسه على أحد مقاعد المشفى الميداني الذي يعمل فيه، ليأخذ قسطاً من الراحة بعد يوم عمل شاق تخللته مشاهد الدم والأشلاء وأنين المتعَبين وصراخ الأهالي طلباً للنجدة.

قبل أن تبلغ الأزمة في سورية أوجها، كان محمد فكرة شاباً عادياً يعيش في مدينته دوما الواقعة على أطراف العاصمة دمشق. وفي جامعتها، درس التصميم المعماري. وفي عام 2011، عندما بدأت الثورة السوريّة، رفض الخروج من المدينة الثائرة على الرغم من الحصار. في تلك الظروف، اضطر إلى ترك الجامعة، والتحق بإحدى المؤسسات الإنسانيّة الحياديّة في دوما، كمسعف للجرحى والمتأزمين نفسياً، من خلال بعض برامج الدعم النفسي.

يحبّ التعريف عن نفسه باسم "بدرا" والعمر 24 عاماً. هو شاب جميل بملامح طفوليّة، يقضي يومه بين مناوبات الإسعاف والتمريض. في عينَيه الكثير من الحكايا والقصص المروّعة التي عرفها خلال السنوات الثلاث الماضية.

وبدرا الذي لا يعتبر نفسه من الثوار أو الناشطين، يتحدّث عن طبيعة عمله في المشافي الميدانيّة، مستعيداً بعض المشاهد التي لم تُمحَ من ذاكرته. "كان العمل الإسعافي صعباً. تعبت وأرهقت نفسيّتي، أمام مشاهد الأشلاء المتناثرة بين خرق القماش بعد كل مجزرة.

ولغاية اليوم، لا تغيب عن ذاكرتي صورة امرأة النشابية وحذائها الأحمر والطفلة بيان التي أسعِفت بجوربٍ بنيٍ واحد وحجاب ممزّق. لم أنسَ آلاف الأحذية المعلقة بأرجل مقطوعة.

أذكر خاتم إحداهنّ.. ما زال معلقاً بذاكرتي، كتَعلُّقه بحجره الفيروزي المغطى بالدم والغبار بالقرب من باب المشفى الميداني".

ويتذكّر "دموع العم أبو محمود الذي سقط محاولاً تقبيل قدمَيّ وقد أنقذت ابنه الصيدلي محمد. أذكر يومها كل ما حصل. أصيب ابنه بأول قذيفة سقطت على المدينة بعد مجزرة 29 يونيو/حزيران 2012، واستشهد مع سبعةٍ من عائلته".

وعندما يخبر عن "رائحة الدم"، يغصّ بحروفه قبل أن يصف كيف "تعلق على كفَّيك وتلازمك عند تناولك الطعام وعند استيقاظك من النوم. فتُشعرك أنك شريك في الجريمة، شريك لأنك لم تمت معهم".

بالنسبة إلى الشاب، "جرح الروح هو ما يحفزّنا على العمل. الضيق والشدّة اللذَان نشعر بهما جميعنا هنا، هما اللذان يصبّراننا في بلد قتله من حاصره مرةً، وقتله من هبّ للدفاع عنه آلاف المرّات".

وبعد كل مجزرة، يحاول بدرا إيجاد فسحة للضحك "كي لا أفقد عقلي في النهاية". فلا يجد سوى الكاميرا وسيلة جيّدة لتخفيف الضغط النفسي وأداة لنقل الواقع، على الرغم من صغر الإطار. فإلى جانب عمله الإسعافي، يمتلك بدرا عيناً فنيّة. هو قادر على سرقة التفاصيل في لحظتها، من زاويته الخاصة. وقد استثمر شغفه بالتصوير الفوتوغرافي، عبر توثيق الأزمة الإنسانيّة في الغوطة الشرقيّة.

وحبّ بدرا للتصوير الفوتوغرافي "بدأ قبل الثورة مع اهتمام أصدقائي بالمعارض الفنيّة في المراكز الثقافيّة في دمشق. وقد لفت نظري بشدّة معرض في المركز الثقافي الفرنسي للفنان السوري عمار عبد ربه، وآخر للفنان جابر العظمة".

وراح ينشر صوره على موقع "فليكر". ويلاحظ متابعُه أن الطابع الإنساني يغلب على صوره. فهي في مجملها تحكي قصص وجوه مختلفة لأطفال وعجائز ونساء وشباب، صور مشبعة بالتعابير الإنسانيّة.

وقد نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" صورة التقطها بدرا، "لخّصت القصف الجوي والدمار الهائل بامرأة عجوز حنت رأسها نحو الأسفل". بالنسبة إليه، "رأسها المنحني يساوي ملايين الحروف التي قد تروي للعالم ما حصل حينها لتلك العجوز".

وفي ثالث أيام عيد الفطر الماضي، شهدت مدينة دوما مجزرة راح ضحيّتها أكثر من 25 شهيداً، معظمهم من الأطفال الذين تجمّعوا حول لعبة "الفيشة" أمام أحد المشافي الميدانيّة. يتذكّر بدرا الحادثة جيداً. "فبعدما انتهيت من الإسعاف، شيء ما بداخلي دفعني للتصوير، كي لا أنسى. فأنا أحاول تجسيد المعاناة من خلال تعابير أحد الوجوه.. تعابير إنسانيّة تختصر الواقع بأدق تفاصيله".

وبدرا الذي يحتفظ بمعظم صوره لنفسه، بدأ مؤخراً بالعمل مع وكالة "رويترز" للأنباء كمصوّر حرّ، ليوصل للعالم ما تشهده مدينته دوما والمآسي التي يعيشها أهلها.

ويصرّ على أنه يعتبر نفسه "هاوياً. أحاول أن أنقل بعض مظاهر الظلم والمعاناة التي تمر أمامي كمسعف".

وإذ يتمنّى أن "تتعافى مدينتي اليتيمة وتُشفى جراح أطفالها"، يقول "لا أعرف ماذا تخبئ الأيام لنا. أتمنى أن نعيش يوماً في بلد خالٍ من الحرب، بلد بلا تخوين ولا تكفير ولا قتل ولا تطرّف".
المساهمون