باكو إبانييث: كل متألم هو أخي

16 أكتوبر 2018
(باكو إبانييث في بيربينيا الفرنسية، 2009، تصوير: ريموند روا)
+ الخط -

طرفتان

ذات يوم، سألَ الخالُ صهرَه:
ـ ماذا يعمل الفتى باكو؟
رد الأب: يغنّي.
استفهم الخال: يربح فلوساً؟
قال الأب: ليس كثيراً.
فقال الخال: طُز عليه، معناها لا يعرف كيف يغني!
قلت لباكو: لقد سمعتك تقول هذه القصة أمام جمهور حاشد في اليوتيوب.
قال: مستحيل، نحن لم نضعها هناك.
قلت: أنا متأكد.
قال: إذن، ثمة قراصنة يتعيّشون على السرقة، يُنزّلون على اليوتيوب ما لا نرغب في تنزيله، وغوغل اللصة تعطيهم بعض الفتات.
قال: الأميركان، حقيقة، أفسدوا الفن.
أما الطرفة الأخرى، فقد جرت في حفل توقيع كتاب صلاح الأخير، بمنبى الأتينيو، وبحضور آدا كولاو رئيسة البلدية.
سأله الإداريون: ماذا تريد على الطاولة؟
قال: ماء. فأتوا له بعبوة ماء، فرماها بطول يده ووبّخهم:
ـ لا تكونوا "يانكيين" يعبدون البلاستك!
فأتوا له بكأس ماء زجاجي.
طُرفتان تلخصان مسيرة الرجل، من حيث بدأ، وحيث انتهى: يكفيه من المال ما يستره، ولا يطمح بقرش زيادة عن حاجاته الضرورية. فالمال يُفسد ـ قال وأضاف ـ المال هو أصل الشر في العالم.

***

يلقي هذا الحوار شيئاً من الضوء على المغني الأكثر أصالة ورهافة في القرن الإسباني العشرين، وإن كانت قيمة باكو إبانييث ومكانته محفوظتين لدى محبّيه على امتداد شبه الجزيرة الإيبيرية وأميركا اللاتينية، فإن أقصى غايته، أن يُذكّر ثقافتنا بضرورة فتح نوافذ، وتنسّم أجنحة جديدة لفن الغناء الرفيع.

غنى باكو أفضل ما في شعر اللغة القشتالية، وهو ـ كما كتب جوزيه ساراماغو في مقال عنه ـ : "صوت لا لبس فيه. قادر على فتح مسارات الأخوة الإنسانية الأصيلة، في روح أولئك الذين يستمعون إليه. حسناً، إننا جميعاً بحاجة إلى قدراته التعبيرية الجديدة ودفء صوته المخملي الذاهب إلى القلب مباشرة".

على سطح العمارة رقم (8) بحيّ غراسيا العريق، وفي بيت الطبيب الفلسطيني والكاتب بالكتالانية صلاح جمال أبو علي، كان اللقاءُ مع مغني إسبانيا الأشهر. ولولا صلاح، لما كان سهلاً إجراء حوار مع رجل، معروف عنه بُعده عن وسائل الإعلام بأنواعها.

جاء باكو (المولود عام 1934 من أب بالنسيّ وأم باسكيّة) مع ابن زوجته الكتالانية خوليا، حسب الموعد، في تمام السابعة مساء، من آخر يوم في آب/ أغسطس، وانتهى الحوار، أو "جلسة الأصدقاء العائلية" كما يحب أن يسميها، في الرابعة من فجر اليوم الأول من أيلول/سبتمبر.

في الأثناء، التحق بنا الزوجان الصحافيان جوان وسلفيا، بينما أتحفنا صلاح وزوجته بكرمهما. كنت قد أعددت أسئلتي، لأكتشف أن باكو حريص على الإجابة بأقل الكلمات. لقد فهمت أنّ عليّ استقاء ما أريد وأستزيد من خلال الحديث، لا الحوار فقط، وهذا ما كان. محاطين بترّاس واسع يُشرف على جميع جهات المدينة ومعالمها التاريخية، وبأشجار فلسطين ونباتاتها المزروعة في قوارير كبيرة وصغيرة، وبالأكل الفلسطيني الأصلي، ونبيذ كتالونيا، ثم بهذا اليوم الهارب من الربيع، إلى صيف حار وماطر، مضت الساعات كلحظات.

وإن كانت معظم أغاني باكو مكرّسة للحب والعاطفة، فإن أغانيه السياسية الأقل هي التي أعطته هذه المكانة عن ذلك يقول "العربي الجديد": "لأن أغنية موجهة إلى مئة ألف من الجمهور، في وقت دكتاتورية فرانكو، تُعطي انطباعاً أكبر من إيقاع الشعور الداخلي المختصّ بشخصين فقط"، مضيفاً: "ومع أن السياسة مهمة ولن أتنكر لها، إلا أن الحب يظل أبقى وأخلد. لقد حوّلني الناس ـ أردت أم لم أُرد ـ إلى رمز للنضال من أجل تغيير المجتمع، واستنبات الجمهورية الإسبانية. كان غنائي شكلاً من الصراع الضاري مع فرانكو، ومع الإمبريالية".

تزامن غناء باكو السياسي مع اندلاع حركة 68 في باريس، كان قد دعي إلى حفل في السوربون، "وهناك فوجئت بضيق الجامعة، فأخرجوني إلى الساحة، حيث كان ينتظرني الألوف. من هنا، بدأت شهرتي كمغنٍ يمثّل قضية بلده السياسية"، يقول، ثم يكمل ضاحكاً "كما فعلوا مع ياسر عرفات".

قصائد مختلفة لشعراء كثر على مدار ستين عاماً أصبحت أغانٍ لباكو؛ يقول "كل شاعر غنّيت له، يملك طابعه الخاص. لكن من تعودني أطيافُهم أكثر هم: لوركا وفيلبه وغويتيسولو، وثيرنودا"، وقد غنى للأخير قصيدة عن المنفيين الإسبان، يرددها دائماً في مناسبات فلسطينية. بالنسبة إلى صديقه نيرودا يشير باكو: "قال لي: شعري خُلق لصوتك. وبالفعل، غنيت له عدة قصائد أشهرها "أستطيع أن أكتب الأشعار الأكثر حزناً هذه الليلة".	 من اليسار إلى اليمين الشاعر الإسباني خوسيه غوتيسولو، باكو، الشاعر والمغني الفرنسي جورج موستاكي، المغني والشاعر الإسباني لويس آوت

بالنسبة إلى تطور الأغنية الإسبانية، بعدما تحوّلت موسيقى الأغاني إلى مجرد إيقاع أصمّ، يصفها باكو بأنها "ضجيج مستمر، انتهت أغاني الإيقاع الدافئ. خلق الأميركان نمطاً مريعاً. لا طلوع ولا نزول، محض مستويات مُسطّحة. والكارثة أن المجتمع لا يسأل عن هذا الانحطاط الذوقي، لأنه مجتمع استهلاكي بامتياز".

في فترة من حياته، أمضى باكو خمسة أشهر كما يقول في "جحيم الدولة الفاشية" في الكيان الصهيوني: "روحي طلعت في سجونهم. كان ذلك في باريس عام 64، حين دعاني متعهّد فني للغناء. كان مكروهاً بين كل الرفاق، ولم أكن أعرف. ذهبت وغنيت، ولم يعطني الرجل حقوقي، فما كان مني إلا أن أشبعته ضرباً، حتى أخذوه نازفاً بالإسعاف". "إلى هذه الدرجة؟" أعلق، فيوضح مكملاً: "هل نسيت أن أمي وأخوالي فلّاحون باسكيّون؟ وأنني عشت طفولتي في بلاد الباسك لمدة 14 سنة، أَضربُ وأُضرب؟" (يُخرج مطوية ويرينا صوراً لأحد أخواله يحمل ـ على جنب ـ قطعة حديد مستطيلة، تزن 150 كيلو).

يتابع حكاية زيارته لـ "إسرائيل": "ذهبت للكيان بدون نقود، وكان المتعهد اسمه ألِكْس ماسِس قد استقبلني مُتجهماً ونفَخَ، بعد أن فاجأت الجمهور في ميدان تل أبيب بأغنية للمقاومة الفلسطينية، قال: ماذا تريد؟ قلت: نقودي، فدخّن ونفَخَ عليَّ ثانيةً، فنطحته في رأسه، ولولا تدخل الناس ربما كنت قتلته! نعم! هو ذهب للمستشفى وذهبت أنا للسجن".

يقول باكو: "هكذا دخلت السجن للمرة الأولى تلك الليلة، وكنت قبلها بليلة أُغنّي نجماً في مسرح أبولو بباريس! وضعوني في غرفة حقيرة مع روماني مهرّب مجوهرات، وبدأ هذا يشرح لي أسرار عمله، فضحكت ـ حتى الفجرـ ذلك الضحك الأسود. عندما خرجت من باب السجن، كان الكاتب عاموس كينان ينتظرني، إذ كان العالم كله عرِفَ بالموضوع. أخذني عاموس إلى مقهى كاسيت، وكل المشهورين الذين يقفون مع بعض حقوق الشعب الفلسطيني، كانوا هناك بانتظاري. احتفلوا بي (يتهكّم) أكثر مما فعلوا بموشيه ديّان صاحب حرب السويس!".

"ربما كانوا حينها يساريين نوعاً ما لكنهم في ما بعد انقلبوا"، قلتُ، فأردف: "من ينقلب ليس فناناً ويعوزه شرف الفن والموقف"، كان يسار الكيان آنذاك قد خدَعَ غير واحد من نجوم اليسار في إسبانيا وأميركا اللاتينية، ناهيك عن مئات التروتسكيين اللاتينيين، ثم سرعان ما انكشفت الخدعة، بعد أيام أو شهور من وجودهم في الكيبوتسات، فعادوا بمواقف ورؤى جذرية.

شارك باكو أخيراً بأغنية، في قصر البلدية، بمناسبة حفل توقيع كتاب صلاح عن ذكريات النكبة والمقاومة بعد حرب 67. طلبت منه أن يروي قصته مع الفلسطيني الذي أخذه من برشلونة إلى فلسطين بنكهاتها وتاريخها المأسوي، لكنه قال: "عرفت فلسطين قبل صلاح، لأنني يساري ملتزم ولدي شعور قارّ بالتماهي مع كل مضطهدي الكوكب: كل متألم هو أخي. نعم، حتى أبي كان يُسمّيني: محامي الفقراء".

يتذكر باكو: "عندما جئت برشلونة للإقامة، قبل 25 عاماً، وجدت كاتباً فلسطينياً يكتب حكايات عن مطبخ بلده الثمين والثري، وهكذا بدأت علاقة صداقة، أذكر، عندما زرت فلسطين ذهبت إلى يافا وأكلت "صينية كفتة" بالفرن، على البحر. ما زال طعمها على لساني. كذلك زرت مدينة الخليل القديمة، ورأيت كيف يصنعون الزجاج، بطريقتهم، فصرخت منتشياً أُولي- ألله".

يتابه "ثم أتحفني صلاح بلذائد مطبخكم: الرز بالحليب، الحمص، الزعتر، صينية اللحمة، السَّلطات، فتحوّلنا إلى أصدقاء للأبد! (يقهقه وهو يتذوق زيت الزيتون النابلسي مع خبز أسود) ويكمل "في عيد ميلادي الستين عملت حفلة ضخمة وطلبت من صلاح أن يعمل طعاماً فلسطينياً يكفي لمئة شخص. جاء إلى بيتي ونصب خيمة وأشعل النار وصنع وليمة معتبرة".

خلال الأشهر الاخيرة، اشتغل باكو على أغان باللغة الغاليثية من كلمات الشاعر أنتونيو غارثيا تيخيرو. أنا مثلكم أيها الشعراء، عمري ما عرفت متى تأتي شرارة الإله أو الشيطان.

وهو يقوم بتلحين كل أغانيه تقريباً. وتكاد الغيتارة تكون أداته الوحيدة، عن ذلك يقول: "الصوت لوحده هو أوركسترا. خُذ صوت تلك الملكة، أم كلثوم" قبل أن يشرع في غناء كوبليه "إللي شفتو"، وينتهي فيقول: "لا أتعب مطلقاً من سماعها. هي مغنّيتي الأولى. إنها ربة غناء نادرة في العالم. تسحرني دون أن أفهم الكلمات".

"سأغني لك أغنية من بالنسيا، لتفهم أهمية صوت المغني"، يقول باكو ثم يبدأ في الغناء الشجي العذب، وبعد أن غنّاها بطريقته هو، أعادها بالطريقة البالنسية، فشعرنا بمدى الفرق، بصوته الشجي فائق الحنان، والذي يأتي كما يقول من الكلمات التي يختارها والتي حين يؤديها يبدو الأمر كما لو أنه ينزف من عروقي، وفقاً لتعبيره.

بالنسبة إليّ فقد اكتشفت باكو بالصدفة السعيدة، وكنت أستمع إليه في اليوتيوب لساعات، حتى أن أغانيه كانت، في غير حين، خلفيةً لكتابتي، أقول له ذلك فيشعر بالخجل، مثلما شعر حين أخبرته عن اتصالي بصالح علماني قبيل لقائنا، وعرفت بأنه مدمن على سماع باكو منذ تراث الستينات، ولكن أسطواناته سُرقت، في حادث السطو الأخير على بيته في بالنسيا. يضحك الفنان ويعلّق " قل لصالح، حسنٌ أنها سُرقت. لا أريد معاقبته بطول سماعي".

الحديث يجر إلى حديث مع باكو، أسأله عما وصل إليه بعد طول التجربة، وكيف يرى العالم اليوم، يقول: "الفاشية الرأسمالية الآن يمكن تلخيصها في أن أي إنسان يفكّر، يُخيف. عمل الفاشيين الغربيين يتركز في جعْل الناس لا تفكر. تنميط البشر كحشودات من جيشٍ بالملابس ذاتها. للأسف، لقد نجحوا. لقد جعلوا الناس بلا تفكير على الإطلاق: حشروهم في مَعِداتهم الضيقة. الفاشية سيطرت على الدنيا لأن أغلب البشر الآن لا يفكرون. وأظنها ستنجح في ذلك لمدة خمسين سنة قادمة على الأقل. فالذين يفكرون هم قلائل: أقلية هذا العالم النبيلة التعيسة. إن وجه الفاشية الرأسمالية الحقيقي هو وجه الفراغ والخلاء: الخواء. كل مرة تفكر الناس أقل فأقل. وهكذا فالفاشية سعيدة جداً بهذه الحال، أقول للعالم الذي أحب إنك يا عزيزي في خطر حقيقي، تتأرجح على حوافّ".

ويضيف: "العالم اليوم شجرة تفقد أوراقها. ولا مكان لنا كفنانين سوى أن نتمترس في خندق المقاومة. الشعب الفلسطيني يدفع غالياً ثمن الفاشية الصهيونية، لأنه يفكر ويقاوم ويبتدع طرقاً، ولو كان لا يفكر، لما قاوَم. فاشيّتهم لكم، وديمقراطيتهم المزعومة لهم. ثم يستدرك: "أنتم لا تفعلون كل ما يجب أيها الفلسطينيون. تحرّكوا وأنا مستعد أن أتعاون معكم. الأحلام ستظل معي للنفَس الأخير. فالحلم يرافق الشخص ذاته، ولن يذهب. إن علاقتي مع العالم، وما أنتظره منه، جعلتني أشعر الآن أنني أرمل.. كأنني شخص مهجور، تماماً مثل مناضل فلسطيني".

مرة كُتبَ عن باكو مقال عنوانه "باكو إبانيث: صوت الشعراء"، إنما هو أيضاً صوت الحب في أرفع معانيه، صوت الفقراء أيضاً، ومناضلي الحرية. نسأله ماذا يختاره من أغانيك ويودّ أن يبقى للتاريخ؟ فيجيب: "لا أستطيع الاختيار. تقريباً كل أغانيّ قريبة من قلبي. ربما أغنية "كلمات من أجل خوليا"، لـ غويتيسولو، لكن كلا، أحب أغانيّ كلها. دع إجابة هذا السؤال للناس".

غير أن تفرده واختياره الدقيق للقصائد التي يغنيها، يجعل أغنياته مسموعة اليوم حتى من الأجيال الجديدة، عن ذلك يقول: "أنا ساعي بريد، أنقل القصائد من الشعراء إلى الناس بالرسائل والأحاسيس التي فيها. فالشعر له حجم، أحوّله إلى حجم أوسع، كيما تصل الرسالة التي قصَدَها الشاعر. ولعلّي من هنا، أدخل إلى سحر الكلمة، فأُطلق قواها السحيقة المغمورة تحت الحرف المكتوب".

يقضي باكو وقته في برشلونه؛ إما أنه ينحت مجسمات دقيقة على الخشب، يقرأ كثيراً، يعزف على الغيتارة، ويأكل ويشرب بوفرة: "لأنّ جيناتي بلنسية وباسكية". يستمع إلى أغاني براسانِس، وليو فريّه، وسالتري نيه، وإدمندو روبيرو، وكارلوس غارديل، وأتاولبه يوبنكي، وماريا تناسي، وإيفا دي مارتشيك، وتشوكلاته، وإيمانول، "وطبعاً: أم كلثوم" لا ينسى أن يضيف.

أيام فرانكو، هاجر باكو إلى غير منفى، لكنه لا يحن لأي منها، ما يشعر به اليوم هو الامتنان والشكر "لفرنسا التي آوتني لأكثر من عشرين عاماً. وصلتها بعمر الـ 17، وغادرتها بعمر الأربعين. أنا لم أعش في فرنسا، بل عشتُ فرنسا. في تلك السنوات البعيدة، كانت أغانيّ تصل إلى إسبانيا مُهرّبة. وحين رجعتُ عام 1967 إلى برشلونة، سمحت لي السلطات ببعض الأغاني فقط، وحظرت الكثير".

لـ "العربي الجديد" يقول باكو "أقول لهذه الجريدة أن تظل تكتب الحقائق، وهذا يكفيها مجداً في أزمنة الاختلاق". وللشعب الفلسطيني والعربي يقول: "دائماً وأبداً أنا بجانبكم. وإلى أن أمضي، ستظل تسمعني أنادي: عاشت فلسطين حرة. هذه ليست شعارات. إنها واقع وإحساس وحلم".

انتهى اللقاء فجراً، وأخرج باكو من شنطته كدسة من الأسطوانات وبعض كتب أغانيه، ووقّعها لنا بكرم غامر، قائلاً إنه يعزمنا على سهرة مثل هذه في بيته، وعلى طعام كتالاني قديم، الـ "فيديوا"، قلت له: ستتعب خوليا. فقال: لا عليك، فهي ككل الكَتَلان، بروليتاريا لا تكف عن الحركة حتى في العُطل. ثم، على مدخل العمارة، عرضَ عليّ توصيلي بالسيارة، إلى "باي دي برون"، فتحججت بحاجتي للمشي، في هذا الجو الساحر، فجر برشلونة حيث الشوارع قليلة المارّة .. وتعانقنا، وكل ذهب في اتجاه.

سيبقى من هذا اللقاء ما يرسب في القاع: فنان اليسار الإسباني المخضرم، الممسوس بالـ ("دويندي" ـ حسب لوركا)، هو إنسان متواضع كريم الروح، يعتز بأصوله الفلاحيّة الفقيرة، ولم تحبطه السنوات الأربع والثمانون، التي يحملها على كاهليه، من حماسته للقضايا العادلة أينما كانت.

الشيوعي الذي لا يزال يقول: "اليانكي"، بعد أن اختفت الكلمةُ من التداول. هو، عندي، أحد نجمَين، في شبه الجزيرة الإيبيرية، أثبتا، كل في مجاله، أن الالتزام في الفن، لا يتعارض مع إنتاجِهِ بأرقى المعايير. الآخر هو جوزيه ساراماغو. وكلاهما يعرف الآخر ويقدّره.

حتى مئة سنة يا عزيزي الترابادور!

أسطوانات وشعراء

لباكو Paco Ibáñez عدة ألبومات صدر أولها عام 1964، وكان "باكو إيبانيث 1"، ثم "باكو 2" (1967)، فـ "باكو 3" (1969)، و"زهرة الوقت" (1978)، ثم "غناء بارسينز" (1979) وغنى فيه قصائد للشاعر والمغني الفرنسي جورج براسون، ثم "من أجل أغنية" (1990)، و"تذكر" (1999)، و"غناء غويتسيلو" (2000) وفيه قصائد للشاعر الإسباني خوسيه غويتسيلو، وفي 2003 أصدر ألبوم "كان بالأمس"، ناهيك عن أعماله المعروفة مع لوركا وألبرتي ونيرودا وغيرهم.

المساهمون