باسكال بونيفاس: الفيروس تحت مجهر الجيوبوليتيك

17 يوليو 2020
بونيفاس في مكتبه (Getty)
+ الخط -

أصدر الباحث الفرنسي باسكال بونيفاس، منذ أيام قليلة، كتاباً بعنوان "جيوبوليتيك كوفيد 19"، إذا اعتمدنا الاقتراض المباشر من اللغات الأوروبية. ويمكن ترجمته بـ"جيوسياسة كوفيد 19" أو "جغرا-سياسة كوفيد 19"، إذا أرجعنا "جيوبوليتيك" إلى مصطلح أقرب إلى العربية: الجغرافية السياسية، على أنَّ كلمة "جغرافيا" هي الأخرى مُقتَرضة. ويهبها استقرار استعمالها من المحيط إلى الخليج شيئاً من الشرعية، وقد يكون الأمر كذلك مع مفردة "جيو-سياسة".

يطرح الكتاب إشكالاً رئيساً، يقدّمه بونيفاس بتساؤل: أليس من السابق لأوانه استخلاص العِبَر الجيو-سياسية من هذه الجائحة التي لا تزال آثارها الكارثيّة ساريةً في العباد والاقتصاد. فبعد أنْ رَمت العالم بِأسره في حالةٍ من الذّهول، هل يقدر أحدٌ على تحليلها بموضوعية واتخاذ مسافة نقديّة منها؟ ورغم وجاهة هذين الاحترازيْن، أكّد بونيفاس إمكانية استنتاج بعض الخلاصات الأوليّة.

فعلى حين غِرّةٍ، انغلقت مائة وخمسون دولةٌ، يَسكنها أربعة مليارات من البشر، في حَجْرٍ شامل، أصابها في مَقتلٍ. وكانت الطريقة التي أجْبِرت بها هذه الدول على الانغلاق شبه مُهينةٍ. وهي التي كانت قَلّما تَأخذ، على محمل الجِد، مثل هذه الإنذارات، بل وتعتبرها تطرّفاً فكريّاً أو "أبوكالبتية" (قياميّة) غير مبرّرة. فما أصاب القارتين الأوروبية والأميركية من خسائر فادحة كان بسبب "التكبّر الحضاري" الذي يَصمهُما، فلطالما كانت دولهما فخورةً بنظامها الطبّي متبَجِّحةً بتقدّمها في مجال الصحّة معتبرةً أنّ مثل هذه الأوبئة لا تُطاول سوى الدُّول الأفريقية والآسيوية. فجأةً، اهتزّت الأركانُ من الداخل، بعد أن أظهرت أزمة كوفيد-19 أنّ الغربَ لم يَعد هو الذي يقود العالَم ولا من يَتَحَكّم في مصيره أو يفرض عليه نسقَ سيرورته ونظامَ قِيَمه، بعدَ أن كان، طيلة خمسة قرون كاملة، مُهيمناً على الآخرين.

لم يصب الفيروس الإنسان فقط، بل أيضاً نظام العالم

وتناول الباحث الفرنسي النهج الفوضوي التي أدار به دونالد ترامب هذه الأزمة على المستوى الصحّي الداخلي، في الولايات المتحدة، وعلى المستوى الدبلوماسي، إذ كانت سائر البيانات متضاربة، عنيفة وكارثيّة. وتطرّق بعدها إلى الصّعود الواضح للصين، إثر خروج الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية. وهو ما أظهرَ للعَلن حدّةَ الصّراع الجيوسياسي بين الصين وأميركا، بعد أن ظلّ طَيَّ الخفاء طيلة العقود الأخيرة.

أما أوروبا، القارّة العجوز، فقد تصرّفت بشكل أنانيّ، وبدت مُترَدّدةً وعاجزةً عن اتخاذ أيّ مَوقفٍ مُوَحّد وتضامني، مما يَعني غيابَ التجانس بين دولها الثماني والعشرين، حتى خُشِيَ عليها "الوفاة". وهذا يعني، إنْ تَحقّق بعضه، تحوّلات جيوسياسية خطيرة، لعلّ العالم لم يعرفها منذ سقوط جدار برلين. وفي حال جرى إنقاذ الاتحاد الأوروبي، فسيكون بتدارك هفواته في إدارة أزمة كورونا وهو ما قد يؤشر إلى بداية انطلاق جديدة للسياسات الاجتماعية والصّحية والموازنات المالية، بترتيب أولويات جديدة.

الصورة
كتاب باسكال بونيفاس - القسم الثقافي

وأما في ما يتعلق بدعوى "مَوت العَوْلمة"، بعدَ إغلاق الحدود الذي فُرِض على "القرية الأرضية"، فَيرى صاحب "أطلس الأزمات والصراعات" (2019) أنّ فيها ضرباً من المبالغة، لأنّ هذا المفهوم لا يعني نهاية الحدود ولا اختفاءها، وإنما فَرْض نَمط ثقافي مُوَحّد، قَسريّ وأحاديٍّ، تَضيع فيه الخصوصيّات الذاتيّة.

كما وضع الباحث الإصبعَ على تصدّع سياسة "التعددية"، التي تهاوت من الداخل، وأنهى ذلك بالتساؤل عمّا يمكن أن تكون عليه سياسات الولايات المتحدة، في حالتَيْ فَشل ترامب أو فوزه. 

آخر العِبَر التي يُمكن استخلاصُها هي خُطورة داء "الإنكار". فمع أنّه لا أحَدَ ينكِر جدّيّةَ الإنذارات التي تُطلقها الكتب والدراسات الاستشرافيّة، فإنّها لم تؤخذ بعين الاعتبار. وهذا ما يَحصل مع التحذيرات من الاحتباس الحراريّ. وعليه، دعا بونيفاس صراحةً إلى الاستماع إليها بجديّة، والمرور إلى الأفعال عوَض الشعارات والأقوال. إذ أخْشى ما يخشاه هو غَفلةُ الإنسانية، التي يمكن ألا نستخلص أية فائدة من هذه الأزمة وتواصل في "غيّها"، وهو ما تؤكده أزمة كوفيد 19 التي أبانت أنَّ الفيروس لا يصيب الجهاز التنفسي للكائن البشري وحده، بل قد يَضرب نظامَ العالم الذي نعيش فيه.


بطاقة
Pascal Boniface باحث فرنسي متخصّص في العلاقات الدولية من مواليد عام 1956. مؤسس ومدير "معهد العلاقات الدولية والإستراتيجية" (IRIS) وأستاذ "معهد الدراسات الأوروبية" في جامعة باريس الثامنة. ألف ما يزيد على الستين كتاباً حول القضايا الجيوسياسية وبعضها قد ترجم إلى لغات عديدة منها العربية. من أبرز مؤلفاته: "إردة اللا-قوة: نهاية الطموحات الدولية والإستراتيجية"، و"قاموس العلاقات الدولية"، و"نحو حرب عالمية رابعة؟"، و"كرة القدم والعولمة"، و"المثقفون المغالطون: الانتصار الإعلامي لخبراء الكذب". كما أنشأ قناة يوتيوب اسمها "أن نفهم العالم".

المساهمون