ذكرى داليدا، التي رحلت منتحرة في الثالث من أيار/مايو 1987، يسكن طيفها هذه الأيام قاعات السينما مع نجاح الفيلم الذي يتناول حياتها وأخرجته ليزا أزويلوس، غير أن ستاراً آخر يُفتح هذا العام لنجمة أخرى، باربرا، التي رحلت في 1997.
للوهلة الأولى، لا تظهر سوى التشابهات بين الفنانتين، يولاندا جيغليوتي التي عُرفت بـ "داليدا"، ومونيك سارف التي اشتهرت بـ "باربرا". لعله الشعور الذي ينجم من الابتعاد عن الصورة بحيث تختفي تفاصيل كثيرة، لكن الفروقات ليست بسيطة بين هذه وتلك: الأولى انزلقت إلى خفّة الأغنية المنوّعة، فيما مالت الثانية نحو أغنية ملتزمة، وفي نهاية المشوار بدت داليدا ضحية آلة "الشو بزنس" والأضواء، فيما سقطت باربرا في سنوات النسيان، ربما تلك التي رفضت داليدا أن تدخلها.
كان يمكن لـ داليدا أن تكون هي مؤدية أغنية "وجع الحياة" (أغنية باربرا) أو أن تكون باربرا صاحبة أغنية "الموت على الخشبة" (أغنية داليدا). المحصّلة، كانتا تراجيديّتين في عالم الأغنية. يجمعهما أن 2017 يفتح الستار على عودة الاحتفاء بهما.
داليدا هي الأشهر بلا شك. لكن ذلك معقول حين نتذكّر أنها استجابت إلى ما يريده الجمهور، فيما اختارت باربرا حماية "سوادها" الجميل من الأضواء. اليوم، نعلم حجم الحزن الذي سكن قلب الفنانتين على حد سواء.
بدت داليدا همزة وصل بين الأغنية الفرنسية وأنغام المتوسط بمرحها وتلألؤها، أما باربرا فكانت أقرب إلى جسر مع الشمال وألوانه الداكنة، وهي التي ظلّت تُختزل في الذاكرة الإذاعية بعملها "النسر الأسود"، وربما في الذاكرة الرسمية بأدائها لنشيد "غوتنغن" الذي يرمز للصداقة الفرنسية الألمانية، نواة فكرة أوروبا على شكلها الحالي.
المفارقة أن تباين مسارات داليدا وباربرا نستعيده في 2017. ففي حين جرى الإعلان أن السنة الجديدة ستكون "سنة باربرا" حيث ستنظّم عروض موسيقية وأدائية ومعارض بداية من شباط/ فبراير إلى نيسان/ إبريل، إلا أن داليدا تختطف الأضواء فقط بالفيلم الذي يتحدّث عنها.
بدأت "سنة باربرا" بـ حفل بعنوان "باربرا السيمفونية" في الخامس من الشهر الجاري في مسرح "شانزليزيه" في باريس، وتنتظر المكتبات عملاً للروائية الجورجية الفرنسية كاتيفان دافيشيفي تجمع فيه شهادات من عشاقها وقد أشارت إلى نزعتهم للمحافظة على باربرا كشأن شخصي ومحاولتهم حمايتها حتى بعد رحيلها من الأضواء. كما يقدّم صديقها، الممثل جيرار ديبارديو، عرضاً موسيقياً بعنوان "الرجل الذي يلبس أحمر".
السنة ستشهد أيضاً، كما هو الحال بالنسبة لداليدا، إنتاج فيلم حول سيرة باربرا من إخراج ماتيو أمالريك. عملٌ جرى الإعلان أن عرضه الأول سيكون مبدئياً ضمن "مهرجان كان" في الربيع، قبل أن يخرج للصالات في أيلول/ سبتمبر. السينما البيوغرافية هي إذن ميدان تنافس آخر، لكن هذه المرة ستقارن كلّ من باربرا وداليدا بحسب مواهب المخرجين الذين تعهّدوا بتحويل حياتهما إلى سينما.
تُرى، هل أن هذه المقارنات بين باربرا وداليدا مجرّد قراءات يطرحها نقاد الفن خلقته صدفة كونهما رحلتا في سنة تنتهي كتابة أرقامها برقم 7؟ إنها مقارنة تلهينا عن تفاصيل أخرى، إذ ننسى مثلاً أن باربرا كانت أوّل نجمة جمعت بين العناصر الغنائية الثلاثة (كتابة – تلحين – غناء) في مشهد الستينيات الذي يعجّ بأسماء مثل جورج براسنس وجاك بريل وليو فيري وسارج غانسبور، وقد احتكّت بهم جميعاً فغنّت أعمالهم من دون أن تفقد صوتها المميّز والذي بلورته في نوع من الأغاني يشبه كتابة اليوميات.
نمط استحسنه شباب النصف الثاني من القرن العشرين ولا يزالون يذكرون يومياتهم الخاصة من خلال شجن صوت باربرا، ثم وجدت الحركة النسوية في نصوصها نموذجاً عن تعبير أنثوي عن الحب وقضايا الناس، وفي شخصيتها رمزاً لامرأة مثقفة جدلية دون أن تُضيع روائح عطرها.
* ترجمة: شوقي بن حسن