لم يكن سعيد محمد علقم الشهيد الوحيد هناك، فمن قلب الساحة كان مهند الحلبي الذي سار إلى شارع الواد في البلدة القديمة من القدس، حتى وصل إلى هدفه ليقتل مستوطناً أنهى خدمته في جيش الاحتلال ويصيب آخرين. ومنذ ذلك الوقت، يطلق المقدسيون على الشارع اسم مهند الحلبي، الذي كانت عمليته الفدائية بداية لما عُرف بـ"ثورة السكاكين". وساحة باب العامود ذاتها ودّعت، في الجمعة الثالثة من شهر رمضان، ثلاثة من أبناء قرية دير أبو مشعل في محافظة رام الله، سقطوا شهداء هناك بعد أن نفّذوا عملية فدائية، قُتلت خلالها مجندة إسرائيلية، وأصيب جندي. وتجذّرت الساحة في أذهان المقدسيين لتكون ساحة للشهداء فقط. وكانت العملية، بنتائجها، سبباً لغضب إسرائيلي غير مسبوق، عبّر عنه رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، الذي أصدر أمراً بفحص إمكانية تحويل ساحة باب العامود إلى ما أسماه بـ"منطقة معقّمة"، على حد وصفه، أي أن يجري فيها تفتيش كل من يدخل عبر باب العامود.
ولم تكتف قوات الاحتلال بإغلاق هذه الساحة، بل اتخذت إجراءات قمعية وعقابية بحق المواطنين الفلسطينيين من أبناء الضفة الغربية، الذين سحبت منهم تصاريح دخولهم إلى القدس، وداخل فلسطين المحتلة عام 1948. وشنت قوات الاحتلال حملة ترحيل هي الأوسع نطاقاً بحق هؤلاء عن مدينة القدس، إذ تم ترحيل الآلاف منهم بالقوة من أنحاء المدينة. وكخطوة انتقامية لمقتل المجندة، اقتحم المئات من عناصر الوحدات الخاصة في شرطة الاحتلال المسجد الأقصى بعد ذلك، وأصابوا العشرات من المصلين. وقال مدير المسجد الأقصى، أحد المصابين في اقتحام شرطة الاحتلال الأقصى، الشيخ عمر الكسواني، لـ"العربي الجديد"، إن اقتحام الأقصى والاعتداء على المصلين هو رد انتقامي على مقتل المجندة، وفق ما أبلغه أحد ضباط الاحتلال. بيد أن الخطوة الاستفزازية الأبرز التي سجلت، تمثلت في قيام الرئيس الإسرائيلي، رؤوفين ريفلين، بعد العملية، بزيارة مفاجئة لمنطقة باب العامود، وتوقفه بالقرب من نقطة المراقبة التي أقامها الاحتلال على مدخل باب العامود، واستمع من جنود الوحدة، التي كانت المجندة عنصراً فيها، لتفاصيل ما جرى. وبعد أن ندد بالعملية، دعا أجهزة أمن الاحتلال إلى ملاحقة الجهات التي تقف وراء العملية، واتخاذ إجراءات عقابية صارمة ضد أهالي الشهداء. وبالتزامن مع هذه الجولة الاستفزازية لريفلين، كانت طواقم من بلدية الاحتلال تقطع الأشجار على امتداد المنطقة من باب العامود وحتى مغارة القطن الأثرية، لتجعل الأرض هناك جرداء مكشوفة، توفر أمناً لجنود الاحتلال من هجمات متوقعة من فلسطينيين مستقبلاً، في حين أضيف المزيد من كاميرات المراقبة في المنطقة، وتم وضع نقاط مراقبة متطورة على أسطح البنايات العالية.
ووصف القيادي في حركة "فتح"، حاتم عبد القادر، لـ"العربي الجديد"، في وقت سابق، زيارة ريفلين إلى ساحة العامود بأنها استفزازية، وتحمل دلالات خطيرة، وتعكس التوجه المستقبلي لحكومة الاحتلال حيال البلدة القديمة وساحة باب العامود، التي باتت ساحة للشهداء الفلسطينيين. وحذّر من تبعات قرار نتنياهو إغلاق باب العامود، معتبراً أن "خطوة كهذه ستؤدي إلى مزيد من التصعيد والمواجهة". في هذا الوقت، توقعت مصادر مسؤولة في الغرفة التجارية الصناعية العربية في القدس أن تؤدي إجراءات الاحتلال في باب العامود إلى انتكاسة جديدة لأسواق البلدة القديمة التي تعاني من ركود تجاري حاد، إذ سُجل، على مدى الساعات الثماني والأربعين الماضية، انخفاض كبير في أعداد المتسوقين داخل هذه الأسواق بسبب ما يتعرضون له من عمليات تنكيل وإذلال في باب العامود، كما أفاد أمين سر الغرفة التجارية، حجازي الرشق، لـ"العربي الجديد". وحذر الرشق من أكبر انتكاسة قد تواجه الحركة التجارية في البلدة القديمة، في حال تم تنفيذ تعليمات نتنياهو العنصرية بحق ساحة باب العامود، البوابة الرئيسية للبلدة القديمة على العالم.
من جانبه، وصف الخبير الفلسطيني في شؤون القدس والأقصى والاستيطان، جمال عمرو، استهداف سلطات الاحتلال باب العامود، أحد أهم الأبواب التاريخية للبلدة القديمة من القدس، بأنه آخر الضربات القاصمة الموجهة للأقصى والقدس القديمة، ويشكل امتداداً لضربات أخرى طاولت الرموز التاريخية والأثرية للمدينة، بهدف بناء رواية يهودية مزعومة عن صلتهم بالقدس ومسجدها. وحذّر عمرو، في حديث مع "العربي الجديد"، من أن هذا الاستهداف للقدس القديمة، بمساحتها المعروفة، وبما فيها من مقدسات ورموز تاريخية، كالأقصى وحائط البراق، والقصور العباسية والأموية، وكذلك ما تحت المسجد الأقصى من مساحات، يشكل نقطة الارتكاز التي ستؤدي إلى حرب عالمية ثالثة، بحسب قوله. وأشار عمرو إلى أن "الأسلوب المتبع بهذا الشأن هو عسكري بامتياز، وليس خبط عشواء، وخلال سنوات احتلالهم الماضية أحلّوا أسماء عبرانية لأبواب المدينة المقدسة التي باتوا يحكمون السيطرة عليها، وهو ما فعلوه أيضاً بتسمياتهم الجديدة لكثير من الساحات والشوارع، وحتى أسماء بعض الأحياء المتاخمة للبلدة القديمة، بدلاً من أسمائها الأصلية". وأكد أن الاستهداف الإسرائيلي للمباني والبوابات، ذات الرمزية، كانت لغة إسرائيلية موفقة جداً، نقلوها للزائر الأجنبي، ومن خلالها يحاولون تقديم رواية مختلقة ومزعومة ومضللة عن كامل جوهر الصراع، ونجحوا إلى حد ما في تسويقها على كل زائر للقدس القديمة وأماكنها المقدسة.