06 نوفمبر 2024
بائعة الكبريت
قصة بائعة الكبريت، للكاتب الدنماركي هانز كريستيان أندرسن، من أكثر القصص التي تركت فيّ أثراً منذ صغري، ومنذ بدأ شغفي بالقراءة، وكان ذلك لسبب غريب، أنني اعتقدت أنها القصة الخيالية الوحيدة بين القصص والروايات الكثيرة التي قرأتها، أو شاهدتها على شاشة التلفزيون، فكنت أعتقد مثلاً أن قصة "جميلة والوحش" حقيقية خالصة، وأن هناك شراً في العالم يحوّل الأمير وحشا، وأن هناك حباً يجعل فتاة تقبل الزواج بهذا الوحش، ولكني لم أتخيل أن هناك شراً وقسوة في العالم إلى تلك الدرجة التي انبعثت وفاحت من أحداث قصة بائعة الكبريت.
طرح مؤلف "بائعة الكبريت"، التي كتبها في القرن التاسع عشر، قصة فتاة فقيرة يرغمها والدها القاسي على الخروج وسط العاصفة الثلجية لتبيع علب الكبريت، وهناك أناس يحتفلون بليلة رأس السنة مع كل مظاهر الاحتفال الفخمة بالنسبة لطفلة فقيرة، حتى أصبح كل مظهر بالنسبة لها حلماً وأمنية، وهي تشعل العود تلو العود من أعواد الثقاب، لكي ترى نفسها تعيش وسط أجواء الترف والثراء والدفء، حتى نفدت الأعواد، فعاودت محاولة إشعال الأعواد المطفأة بالجدار الذي التصقت به، أملاً في أن تشتعل وترى أحلامها البعيدة.
في إصداراتٍ حديثة لقصة "بائعة الكبريت"، قامت دور النشر بتغيير النهاية البشعة لهذه الطفلة ذات الشعر الأشقر الطويل، حيث وضعت نهاية سعيدة لمأساتها، بأن تتبنّاها أسرة كريمة، وتوفر لها الطعام والدفء. وهذه النهايات ليست سعيدة بالنسبة لطفلة متعلقة بجدتها، وتراها بر الأمان، ومصدر السعادة، حتى لو كانت متوفاة. وقد رأى الكاتب أن موت الطفلة ولحاقها بجدتها هو الراحة الأبدية لها. وبذلك، أصبحت القصة غير مخصصة للصغار، كما قرأوها لنا. وحين تحولت إلى أفلام من الرسوم المتحركة، لكنها تحمل رسالة رمزية، خصوصا أن الطفلة كانت تعاني من اضطهاد والدها وقسوته. وهذا ما نراه مستمراً، فالأطفال الذين يتقافزون هنا وهناك في الشوارع، وتحت المطر، ليس خلفهم بيوتٌ دافئة ولا آباء يحبونهم، ولكن هناك آباء لا يختلفون عن والد بائعة الكبريت، التي كانت تخشى العودة إلى البيت بيد فارغة من المال، خوفاً من عقابه.
بائعة الكبريت طفلة أحرقت كل أعواد الكبريت؛ لتنشر الدفء حولها. ولكي تستمر في هذيانها لعلها تهرب من واقعها. قد نمر بها في أثناء هرولتنا نحو سياراتنا الفارهة، ولا نشعر بها. وقد نصطدم بطرف حذائها الذي فقدته، ونحن ندلف إلى محال السوبرماركت والمولات الضخمة، لكي نبتاع الأطعمة، والمشروبات والمسليات وكل ما يضفي أجواء ساحرة على ليلة شتوية، تزمجر فيها العاصفة في الخارج، وتهطل الأمطار والثلوج. أما الداخل فهو عالم آخر، عالم قساة القلوب الذين بنوا عوالمهم الإسمنتية الآمنة من غضب الطبيعة من دموع بائعات الكبريت والأمشاط والمناديل الورقية وآهاتهن وأحلامهن.
تذكّرت الطفلة، وهي تحتضر، مقولة جدتها إن نجمة من السماء تسقط، حين يحتضر شخص ما. وقد رأت نجمة تسقط، وهي تشخص بعينيها نحو السماء باحثة عن خلاص. وقبل أيام، رأيت عينين تشبهان عينيها، لأم سورية وهي ملقاة فوق الجليد، وبجوارها زوجها وبينهما طفلهما وبعض المتاع، فارّين من هول الحرب إلى الحدود اللبنانية، وقد تلقفهم الموت برحمة، وربما رأت الأم جدتها التي عاشت عمراً بهيجاً، تقترب منها لتحتضنها وتأخذها معها إلى السماء مع عائلتها الصغيرة، حيث لا برد ولا جوع، ولا ظلم البشر، ولا استبدادهم واضطهادهم.
وقد أجرت معلمة دانماركية استطلاعاً بين تلاميذها بشأن نهاية القصة، فأيدوا موت الصغيرة، على أن تنتقل إلى أسرة غير أسرتها، ما يؤكد أن برودة المشاعر من المحيطين تقتل أكثر من الموت والجوع. وموت الطفلة يفسر طبياً، في يومنا هذا، أنه حالة من انكسار القلب، بسبب التعرّض للتوتر النفسي والعصبي، ما يؤدي إلى حدوث انفجار داخلي. وبائعة الكبريت كانت متوترة أكثر من شعورها بالبرد والجوع، متوترة بسبب وحشٍ يسمى الأب، لا ينتظر عودتها خاوية اليدين.
طرح مؤلف "بائعة الكبريت"، التي كتبها في القرن التاسع عشر، قصة فتاة فقيرة يرغمها والدها القاسي على الخروج وسط العاصفة الثلجية لتبيع علب الكبريت، وهناك أناس يحتفلون بليلة رأس السنة مع كل مظاهر الاحتفال الفخمة بالنسبة لطفلة فقيرة، حتى أصبح كل مظهر بالنسبة لها حلماً وأمنية، وهي تشعل العود تلو العود من أعواد الثقاب، لكي ترى نفسها تعيش وسط أجواء الترف والثراء والدفء، حتى نفدت الأعواد، فعاودت محاولة إشعال الأعواد المطفأة بالجدار الذي التصقت به، أملاً في أن تشتعل وترى أحلامها البعيدة.
في إصداراتٍ حديثة لقصة "بائعة الكبريت"، قامت دور النشر بتغيير النهاية البشعة لهذه الطفلة ذات الشعر الأشقر الطويل، حيث وضعت نهاية سعيدة لمأساتها، بأن تتبنّاها أسرة كريمة، وتوفر لها الطعام والدفء. وهذه النهايات ليست سعيدة بالنسبة لطفلة متعلقة بجدتها، وتراها بر الأمان، ومصدر السعادة، حتى لو كانت متوفاة. وقد رأى الكاتب أن موت الطفلة ولحاقها بجدتها هو الراحة الأبدية لها. وبذلك، أصبحت القصة غير مخصصة للصغار، كما قرأوها لنا. وحين تحولت إلى أفلام من الرسوم المتحركة، لكنها تحمل رسالة رمزية، خصوصا أن الطفلة كانت تعاني من اضطهاد والدها وقسوته. وهذا ما نراه مستمراً، فالأطفال الذين يتقافزون هنا وهناك في الشوارع، وتحت المطر، ليس خلفهم بيوتٌ دافئة ولا آباء يحبونهم، ولكن هناك آباء لا يختلفون عن والد بائعة الكبريت، التي كانت تخشى العودة إلى البيت بيد فارغة من المال، خوفاً من عقابه.
بائعة الكبريت طفلة أحرقت كل أعواد الكبريت؛ لتنشر الدفء حولها. ولكي تستمر في هذيانها لعلها تهرب من واقعها. قد نمر بها في أثناء هرولتنا نحو سياراتنا الفارهة، ولا نشعر بها. وقد نصطدم بطرف حذائها الذي فقدته، ونحن ندلف إلى محال السوبرماركت والمولات الضخمة، لكي نبتاع الأطعمة، والمشروبات والمسليات وكل ما يضفي أجواء ساحرة على ليلة شتوية، تزمجر فيها العاصفة في الخارج، وتهطل الأمطار والثلوج. أما الداخل فهو عالم آخر، عالم قساة القلوب الذين بنوا عوالمهم الإسمنتية الآمنة من غضب الطبيعة من دموع بائعات الكبريت والأمشاط والمناديل الورقية وآهاتهن وأحلامهن.
تذكّرت الطفلة، وهي تحتضر، مقولة جدتها إن نجمة من السماء تسقط، حين يحتضر شخص ما. وقد رأت نجمة تسقط، وهي تشخص بعينيها نحو السماء باحثة عن خلاص. وقبل أيام، رأيت عينين تشبهان عينيها، لأم سورية وهي ملقاة فوق الجليد، وبجوارها زوجها وبينهما طفلهما وبعض المتاع، فارّين من هول الحرب إلى الحدود اللبنانية، وقد تلقفهم الموت برحمة، وربما رأت الأم جدتها التي عاشت عمراً بهيجاً، تقترب منها لتحتضنها وتأخذها معها إلى السماء مع عائلتها الصغيرة، حيث لا برد ولا جوع، ولا ظلم البشر، ولا استبدادهم واضطهادهم.
وقد أجرت معلمة دانماركية استطلاعاً بين تلاميذها بشأن نهاية القصة، فأيدوا موت الصغيرة، على أن تنتقل إلى أسرة غير أسرتها، ما يؤكد أن برودة المشاعر من المحيطين تقتل أكثر من الموت والجوع. وموت الطفلة يفسر طبياً، في يومنا هذا، أنه حالة من انكسار القلب، بسبب التعرّض للتوتر النفسي والعصبي، ما يؤدي إلى حدوث انفجار داخلي. وبائعة الكبريت كانت متوترة أكثر من شعورها بالبرد والجوع، متوترة بسبب وحشٍ يسمى الأب، لا ينتظر عودتها خاوية اليدين.