انهيار المشروع الثقافي العربي

22 سبتمبر 2014
+ الخط -

كان الناس، إلى وقتٍ قريب، ينادون أفكار المثقف، إذا ما استجدّ عليهم ظرف، أو واجهوا مشكلة حياتية واجتماعية، ويَدْعون الشاعر إلى قول ما يمكن أن يقوله في أيامهم الصعبة، وقد يستحضرون ما كان قد قال في يومٍ سالفٍ، يجدون فيه صورة لما يحدث في يومهم وموقفاً منه، فقد كان الشاعر ينبوعاً من المعاني التي تخصُّ الحياة وتعني الإنسان، والكاتب حصيلة كبيرة من الأفكار التي تجتمع على قضاياهم ومشكلات أيامهم. وكلاهما، الشاعر والكاتب، كان يملأ العالم الذي هو فيه، وبما يجعل هامة الانسان فوق الزمان وتقلباته: يقول فيجد من يسمع، ويتكلم وهناك من يصغي وعنه يأخذ.


من ذلك الفجر، انبثق عصرنا الحديث، وبتلك النفوس المترعة بالأحلام الذهبية، نهض وقام، فقاوم كل ما/ ومن حاول أن يصادر من أمته أسرارها، أو يُطفئ ما أوقدت من شعلةٍ، كانت جذوتها تلتهب عطاءً.
وكان الواحد من جيل النهضة والثورة يقول مع من كتبَ يقول: "خُيِّلَ لأجدادنا أن النجوم نوافذ يُشرق منها المعنى بنوره على الكلمات"، ليتعلّقوا بالنور، وينشدوا المعنى. ومن ذلك كان لهم أن وضعوا للكتابة ثلاثة مبادىء، فقالوا: إن مدخلها هو الموقف، ونهجها الفن ـ بما هو حالة تكوين، وغايتها الانسان ـ ولم يقولوا "المجتمع"، لكي لا يُحاصروا "المعنى" في ما له، وأمامه، من مقاصد وشمول، بل جعلوا الإنسان بما له من آفاق الحياة هو البُعد الذي يأتي الأشياء بأقوى معانيها.
وما كان يفترضه من جعلوا لهذه التجربة آفاقها الحية أن الفكر ينمو، والموقف يتبلور، وهو ما سارت به/ وعليه المعرفة الإنسانية.
إلا أننا فوجئنا بهذا الواقع ينكسر، وبانكساره انكسرت الكلمات، وتصدّعت المواقف، وتراجع الإنسان، فاختلفت اللغة إشارةً ورمزاً ودلالة، وانهارت المعاني الكبرى بفعل ضربات من "معانٍ بديلة".. حتى إذا ما طفتَ بالمدينة باحثاً عن الثقافة، وجدتَ من يسألك: وأية ثقافة تقصد وتطلبُ؟ لقد أصبح المجتمع فئاتٍ وطوائفَ، كلٌّ منها تُعلّق على بابها "شعار ثقافتها". لتُدرك أن الوحدة انعدمتْ، وأن الانسان ومجتمعه انحرفا عن جادّة التاريخ.
وتحاول أن تتحرّى، فتقصد الأشياء في مواقعها، لتجد أن العلم محاصر بمن ينكرونه ويتنكرون لفتوحاته، والعقل قد انقلبت فيه المفاهيم، فتحوّل الدين طقوساً لا صلة لها بما له من جذور، وتغاير المعنى فحلّتْ الخرافة محل الحقيقة... ومن طرف آخر، تجد من يقول بالمدنية الحديثة، ويزعم الأخذ بثقافتها، ليس أكثر من ممثّل برسم ما يُسند إليه من دور.. فهو المؤدي تلك الطقوس، ساعة تحين التأدية، المعبّأ بما لها من معانٍ وضعها المرشدون.
فإذا ما سألتَ رجل الفكر والتاريخ عن هذا الذي يمرّ على واقعك، مثل عاصفة من غبار أسود، يحاول تغيير صورة الزمان في المكان. قال لك: هذا ما تجد جذوره في ما اصطلح الأسلاف عليه بـ"الهُجْنة"، وقد ردّوا جذورها وبذورها إلى تلك "الحركات" التي يعدونها من أسباب التردّي في التاريخ، ومن عوامل الانهيار، إذ إنها سعت الى تزييف النفس العربية، وشوَّهتْ ما لها من نظرةٍ صافية، معطّلة كل قدرة فيها على رؤية الحاضر والمستقبل. أما ما اعتلى وجود الأمة من حالاتٍ غريبة عليها، شوّهتْ صورتها التاريخية، فيُشبِّه اعتلاءها باعتلاء الحشرات الضامرة على الموج، ساكبةً سمومها في الينابيع.
ويضيف القول: نحن صنعنا تاريخاً يوم فكّرنا تفكيراً عقلياً، وعقلانياً، وأخذنا الأشياء بمنطق العقل، فواجهنا الخرافة بروح العلم، وحرّكنا ركود الواقع برياح الحضارة... إلا أننا نبدو، اليوم، كمن يغادر التاريخ: فنحن نثور على العقل، وغايتنا أن نلغي ما له من دور في حياتنا، ونكفّ عن إثارة الأسئلة، مستسلمين إلى أجوبةٍ ساكنةٍ، تنحدر من "تاريخ ميّت"، ونتقصى القول، مهما كان فيه من خروج على العقلانية والعقل، فنسكن إليه.. فما يُساق على الأرض ليُكتب له البقاء هو "أوهام التاريخ"، وليس حقائقه! هذا هو الواقع الذي نحن فيه، اليوم، وما يراد لنا هو أن نكون به/ ومن خلاله، بما يمثّل مشكلة من أعقد مشكلات العصر التي لا يحلها تسطير الكلمات بحبر أسود على ورق أبيض، وإنما تحتاج إلى ما هو جذري من التغيير، فضلاً عن أن إنسانيتنا العربية في حاجة، اليوم، إلى إعادة اكتشاف نفسها.. بل إلى إعادة التكوين. فإن كانت أجيالٌ منا قد كتبتْ قبل اليوم في "الردّ على الاستعمار"، فنحن، اليوم، في حاجة إلى الكتابة في "الرد على أنفسنا" التي وجد الاستعمار منفذاً منها للعودة، فكان أول ما قام به هو "تنمية الهويات الزائفة" التي لا نبرّىء ذمة المثقف، مثقفنا، من إشاعتها، والعمل على تكريسها باتخاذها منبعاً لـ"أصوليات التفكير" التي لم، ولن تنتج سوى "فكر أصولي"، يتراجع بكل من الإنسان والواقع والتاريخ.

7D7377FF-D2B6-4FE4-BFE1-A2312E714BB6
ماجد السامرائي

كاتب وناقد باحث عراقي