انهيار الحضارة الغربية الوشيك.. بين التحذير والتشكيك

23 ابريل 2020
+ الخط -
يعيش العالم اليوم على وقع انتشار فيروس كورونا، هذا الفيروس الذي جال العالم بأسره ولم تنجُ منه إلا دويلات تُعد على رؤوس الأصابع. علمياً، لا يمكن أن نفسر كورونا إلا بكونه فيروساً/مرضاً، يصيب الجهاز التنفسي للإنسان، ولكن البعض يراه من زاوية أخرى، فيحبذ أن يجعل من الفيروس عذاباً، ويرى فيه آخرون، ومن بينهم الصينيون، "مؤامرة أميركية"، والأميركيون يقولون: "مؤامرة صينية"، وهكذا.

وكلما ابتعدنا عن هذه التفسيرات، اقتربنا من تفسير آخر، تفسير يمكن أن ندرجه ضمن الحقل (التاريخي - الحضاري)، إذ يرى البعض ممن لهم حق التعبير، شأنهم شأن البقية -لا تلزمنا محاسبة آرائهم - أن الفيروس ما هو إلا واحد من مجموعة من الأعراض المرضية التي بدأت تظهر على جسم الحضارة الغربية عموماً ونموذجها الأميركي خاصة. وإشارة واضحة إلى كون البيئة لم تعد تستحمل هذا الاستعمال غير المعقلن، وفيروس كورونا ما هو إلا إنذار شديد اللجهة من كوكب الأرض إلى الحضارة الغربية (نستعمل لفظ الحضارة الغربية لكون دولها الأكثر استغلالاً وتخريباً للبيئة، فصناعة أكثر يقابلها خراب أكثر).

وعلى مرّ التاريخ، تزامن ضعف الدول بانتشار المجاعات والمآسي وانتشار للفوضى، وهذا ما نلاحظه إن نحن طالعنا تاريخ الأوبئة. وهذا ما سجله المؤرخ والعالم الألماني "شبنجلر". فهو يربط بين دنوّ نهاية الغرب أو حضارة الغرب، وبين ما يشهده العالم من انتشار للإرهاب والفقر والأمراض الفتاكة. وهذا الرأي يشاطره فيه كثيرون ويعارضه آخرون، وعلى رأسهم المؤرخ "توينبي"، الذي يرى أن رأي الألماني صحيح في كون الحضارة الغربية تعاني اليوم، بل وتحتضر، ولكنها قادرة على أن تنهض وتقف على قدميها من جديد، لكن بشرط مهم، هو بروز فئة مفكرين تجمع بين "العلم والدين".


إذاً، توينبي يرى أن بإمكان الحضارة الغربية أن تنقذ نفسها، وأن بالإمكان لجنازتها أن تؤجل، وألا يحمل نعشها راقصو غانا، ولكن بوجود العاملَين معاً: "الدين والعلم". ويغفل توينبي، أو يتغافل عن كون الحضارة الغربية اليوم لم تعد تهتم بالسماء ولا بما نزل منها، والفلاسفة والمفكرون المتدينون لا نسمع لهم إلا النزر، بينما باب الظهور مفتوح على مصراعيه لكل من يشكك في الدين، حتى بات التشكيك في الدين موضة الثقافة الغربية وحتى العربية.

كذلك لا نجد ذكراً للدين إلا في أيام الآحاد، بل ما نسمع عنه يدور كله في فلك الانقضاض على آخر معاقل الفكر الديني، وخاصة في ما يتعلق بوجود كواكب أخرى ومخلوقات أخرى، بل ونسمع عن رغبة في الوصول إلى طريقة تجنبنا الموت، فكيف يعقل الحديث عن تلاحم وتجانس للدين في أوروبا في خضم كل هذا؟ لهذا، لا شك لدينا في أن رؤية الألماني هي الأكثر وضوحاً وواقعية، خاصة ما سنراه في ما سيأتي حول طور المدنية.

في كتابه العزيز، يقول الله تعالى: "حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ".

عندما تبحث عن تفسير للآية، هذا ما ستجد غالباً: "صرحت الآية بأن سياقها سياق مثل للحياة الدنيا، وما يكون من مآلها، وسرعة زوالها"، وهذا قول جميع المفسرين باستثناء رجل واحد هو الشيخ المحدث "أحمد بن الصديق الغماري"، الذي رأى فيها ما نراه، أي أن الله تعالى يحدد باختصار شديد عوامل سقوط الحضارات وانهيارها، الذي هو طبعاً دخولها في طور المدنية.

وطور المدنية، حسب الدكتور عبد الرحمن بدوي، هو الطور الثاني لأي حضارة، هو الطور الذي تصل فيه الحضارة إلى الأوج وتبدأ بالانحدار شيئاً فشيئاً بعد أن تستنفد مخزون الطاقة الكامن فيها. وهذا الطور مرتبط بالضرورة - حسب الدكتور بدوي - بنزوح العقل البشري نحو الإلحاد وإنكار الله.

لا يمكننا بالطبع الجزم بكون الحضارة الغربية تعيش أيامها الأخيرة، وذلك لأن العالم عرف أوبئة فتاكة هي أقوى من هذا الفيروس، لعل أهمها "الإنفلونزا الإسبانية"، ولكن بإمكاننا تأكيد كونها فقدت - منذ مدة - الكثير من هيبتها واعتزازها بنفسها، وبدأ الشك والريبة يتسربان إلى قلوب أشد الناس اعتزازاً بمنجزاتها من جانب، وإلى كون الإله الذي نصبه الإنسان في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والذي هو "العلم" يمر بأشد أزماته الوجودية من جانب اَخر، والمؤمنون به واقعون تحت هول الصدمة، فكيف يصدقون أن الإله الذي صور لهم الثقوب السوداء وطار بهم نحو الفضاء وقف عاجزاً أمام كائن مجهري، فكيف سيفعل إن ظهر فيروس أشد فتكاً من هذا؟ وأين مزاعم اقترابنا من صنع الخلية من اللا شيء؟ ثم يتخيل حال العالم الثالث الذي هو واحد من مواطنيه في حالة وجود فيروس كالذي قلنا. إنه يتذكر أن الدواء الأميركي هو للأميركي فقط والفرنسي للفرنسي، وبالتالي لا حظ له من عطايا إلهه الذي ظل عليه عاكفاً، إنه في محنة حقيقية ويسأل هذا العلم الذي بين أيدينا: أهو للجميع أم للنخبة الأشقر شعرها؟

وإننا هنا لسنا نسخر من أحد، ولا ننتظر بشغف سقوط البشرية، ولا نقر بحقيقته كما فعل شبنجلر، بل نصرخ نحن والملايين غيرنا في وجه الحضارة الغربية أن استفيقي وكفاك تجبراً. وعوض بحثك عن الكائنات الفضائية التفتي إلى الأطفال الذين يموتون جوعاً، وللنساء اللائي يغتصبن كل يوم، واعلمي أننا كلنا لنا الفضل في وجودك، لا فتاك الأشقر أزرق العينين فقط. ولسنا ننكر فضلك، ولكننا تعبنا ممن يتحكمون فيك وفينا. فهلا قلت كلمتك.
دلالات