انقلاب فقد عقله وثورة مستمرة

01 مايو 2014

شبان مصريون يتظاهرون ضد قانون التظاهر (26إبريل2014 Getty)

+ الخط -
في يوم ٣يوليو/تموز ٢٠١٣، وقف قائد الجيش المصري، يحيط به أركانه من القادة العسكريين، وكوكبة منتقاة من رموز دينية رفيعة المناصب، شيخ الأزهر وبطريرك الكرازة المرقسية ومشايخ السلفية، وأيضاً رموز كانت محسوبة على تياراتٍ مدنية ليبرالية وعناصر شبابية، وسط هذا الجمع المتنوع، وقف قائد الجيش، ليعلن الانقلاب على الرئيس المنتخب، وتعطيل الدستور الذي تم الاستفتاء الشعبي عليه! ويطرح خريطة جديدة للمستقبل، كما أطلق عليها، وخلاصة الأمر، أن القوات المسلحة قررت أن تمسك بزمام أمور الوطن كلها بيدها، بتأييد من تلك الرموز الدينية والمدنية، وأيضاً من الحشود التي تم خروجها في احتفالية 30 يونيو/حزيران المعروفة. وبالطبع، كانت القوات المسلحة قد أحكمت سيطرتها الميدانية الفعلية على كل مؤسسات الدولة ومرافقها، وفى مقدمها مؤسسات الرئاسة والحكومة، واعتقلت الرئيس ومعاونيه.
كانت الخطة محكمةً بلا شك، وكان الإخراج احترافياً وعلى مستوى رفيع، وبدا الموقف وكأنه قد حسم، وعلى الجميع الرضوخ والتسليم للأمر الواقع، خصوصاً وأن من يفرض هذا الأمر الواقع على الأرض هو من يملك السلاح، وأصبحت بيده كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وأيضاً الآلة الإعلامية الضخمة التي بادرت، بمباركة الانقلاب والتهليل له، إلى حد إطلاق "الزغاريد" على الهواء. ولا يزال باقي المشهد في ذاكرة كثيرين. المهم أن قائد الانقلاب أعلن أن ذلك ليس انقلاباً، وإنما تصحيح خطأ وقع فيه الشعب، عندما انتخب رئيساً من الشعب! والمهم، أيضاً، أن قائد الانقلاب أعلن أن هناك خريطة مستقبل تنفذ في مرحلة انتقالية، مدتها ستة شهور، ليصحح الشعب خطأه؟
هنا تستوقفني مفارقة غريبة، وهي موضوع "مرحلة انتقالية ستة شهور"، حيث يستخدمها عادة العسكريون عند استيلائهم على السلطة. وراجعوا معي كل الانقلابات العسكرية في العالم من باكستان، وانقلابات أيوب خان، وضياء الحق، وبرويز مشرف، إلى السودان وإبراهيم عبّود، وجعفر نميري، وعمر البشير، إلى مصر و٢٣ يوليو وإعلاناتها الدستورية ومراحلها الانتقالية، وأخيراً حسين طنطاوي، وإدارة شؤون البلاد بعد ١١فبراير، أعلن عن مرحلة انتقالية مدتها ستة شهور. وأخيراً السيسي، و٣ يوليو هي نفسها الشهور الانتقالية الستة، والتي لا يتم التزامها مطلقاً، وربما كان هناك اعتقاد أنها تميمة، تجلب الحظ للانقلابات العسكرية.
ما علينا، نعود إلى مصر وانقلابها الأخير، ومرحلته الانتقالية ذات الأشهر الستة، أيضاً، حيث تم فوراً تعيين رئيس للجمهورية "قيمة وسيما"، حليق الذقن، هذه المرة، وليس كالذي انتخبه الشعب من قبل، وتعيين نائب له، أيضاً "قيمة وسيما"، وله (صيت) دولي، والمهم أنه ليبرالي وأيقونة للثورة، وللمفارقة أيضاً، معارض للعسكر وحكمهم. ورفض من قبل المشاركة في الانتخابات التي تجرى تحت إشراف العسكر، ورفض الدستور الذي وضع إبان سلطة العسكر، وأخيرا قبل تعيينه بمعرفة العسكر! وتم تعيين حكومة برئاسة خبير اقتصادي مرموق، وضمت رموزاً، أيضاً، ليبرالية ويسارية وناصرية "ومن كل لون يا باتستة"، على رأي المثل الشعبي المصري. والأهم من هذا كله أنه تم الإعلان عن نهاية عصر الإخوان المسلمين إلى غير رجعة، وصدور قرارات إدارية وأحكام قضائية، باعتبارها، ومن ينضمون إليها، أو يتعاملون معها، جماعة إرهابية يحل للسلطة دمها ومآلها، بل وعرضها، ودم ومال كل من يؤيدها أو يتعاطف معها، وأكثر من ذلك، دعت السلطة كل دول العالم العربي والحر لاتخاذ الخطوات نفسها!

ولأن مشوار الألف ميل يبدأ، عادة، بمرحلة انتقالية ستة شهور، تصور قادة الانقلاب أن المشوار قد بدأ، وما هي إلا أيام، أو أسابيع قليلة على أكثر تقدير، وتستقر الأمور، ويبدأ ترسيخ الأوضاع الجديدة. وقد يتطلب الأمر بعض الشدة، وربما الترويع، وهذا ما حدث بالفعل عبر خطابٍ شديد اللهجة، أولاً، بأنه لا مجال للعودة عما جرى، ولا مجال لأي تسوية، بل هي تصفية، ثم تحذيرات حاسمة، أعقبها ما جرى في موقعة نادي الحرس الجمهوري وإراقة دماء نحو مائة، مع نسمات فجر ٨ يوليو/ تموز ٢٠١٣ في صحن المسجد، وفضاء استاد القاهرة خلفه. وتصورت السلطة أن هذا كاف لردع المواطنين المصريين البسطاء، كما حدث في أزمان سابقة. ولكن، جاءت المفاجأة بإصرار الناس البسطاء على المطالبة بحقهم المشروع، واستمرار اعتصاماتهم في ساحة رابعة العدوية وميدان النهضة في الجيزة. ورأت السلطة أن الدرس الأول في موقعة الحرس الجمهوري لم يكن كافياً للترويع، فجاء الدرس الثاني فيما عرف بموقعة المنصة في طريق النصر المؤدي إلى ساحة رابعة العدوية، ليسقط الضحايا وتراق دماء العشرات.
ومرة أخرى، لا يؤتي الترويع ثماره، ولا تنفض الاعتصامات، بل تزداد حدة، ولم تفقد السلطة قناعاتها بأن الترويع هو الحل، وربما يتطلب الأمر مزيداً من القسوة لا أكثر، فجاءت الضربة الكبرى التي تم الإعداد لها جيداً، وهي ما يعرف لدى كل منظمات حقوق الإنسان في العالم بمذبحة رابعة والنهضة ١٤ أغسطس/آب ٢٠١٣، بعد خمسة أسابيع من موقعة الحرس الجمهوري، مجزرة حقيقية لفض الاعتصامين، قتل وتمثيل بالجثث، بل وتجريف لها بالبلدوزرات، ثم عمليات إخفاء تام لآثار الموقعة، وإزالتها، وإعادة رصف المنطقة، سواء في ساحة رابعة أو ميدان النهضة، وتجاوزت في أكثر التقديرات دقة وتوثيقاً من جهات محايدة ١٠٠٠ قتيل!؟
وكانت المفاجأة الكبرى أنه لا الناس البسطاء تم ترويعهم، ولا سلطة الانقلاب ارتدعت، شرارة الثورة تمتد، وتتغلغل، في كل أنحاء مصر، قلب المدن الكبرى وضواحيها، الأقاليم مدنها وقراها، والسواحل والبوادي، المسيرات والتظاهرات السلمية أصبحت ظاهرة يومية، القبول بالتضحيات والاستعداد للمزيد، على الرغم من سقوط الضحايا، قتلى ومصابين ومعتقلين من كل أبناء الوطن، وليس من تيار محدد، أو جماعة أو حزب بعينه. وعلى الجانب الآخر، سلطة الانقلاب ماضية في طريقها، تنفذ خطتها لبناء نظامها السياسي المطور، وهياكله المؤسسية، من دستور وانتخابات رئاسية، مضروبة بمرشح ضرورة وآخر على الرغم من أنفه لاستكمال الصورة.  وسيعقب ذلك حكومة ثم انتخابات برلمانية، وحتى يكتمل المشهد العبثي، فوجئنا وفوجئ العالم كله معنا بعاصفةٍ من الأحكام القضائية غير المسبوقة عالمياً، إحالة أوراق ٥٢٩ متهماً في جريمة قتل شخصين إلى المفتي، ثم الحكم على ٣٧ منهم بالإعدام منهم ٢٠ حضوريّاً و١٧ غيابيّاً، وبالسجن المؤبد على ١٢٠ حضوريّاً و٣٧٢ غيابيّاً، ثم، وفي اليوم نفسه والجلسة، إحالة أوراق ٦٨٣ متهماً إلى المفتي، تمهيداً لإصدار أحكام الإعدام!
وبلغ الأمر مداه بترويج وزير خارجية السلطة القائمة الزعيم القادم الى مصر، والذي هو قائد الجيش الذى استولى على السلطة في ٣ يوليو/ تموز الماضي، ثم قدم نفسه مرشحاً مدنياً لرئاسة الجمهورية، باعتباره الرجل الذي سيحقق مصالح أميركا في المنطقة، هكذا علناً في أحد أهم مراكز التفكير الأميركية المعنية بالشرق الأوسط "مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية".
 وهكذا يمكن القول: وقف الخلق جميعاً ينظرون، كيف يفقد الانقلاب في مصر عقله، بينما الثورة مستمرة!
 

 
2FABA6BB-F989-4199-859B-0E524E7841C7
عادل سليمان

كاتب وباحث أكاديمي مصري في الشؤون الاستراتيچية والنظم العسكرية. لواء ركن متقاعد، رئيس منتدى الحوار الاستراتيجى لدراسات الدفاع والعلاقات المدنية - العسكرية.