انقلاب العسكر وحرب المصطلحات

01 اغسطس 2016
+ الخط -
لم يكن مخطئاً من كتب لبشار الأسد خطابه أمام نقابة المحامين في فبراير/ شباط الماضي، والذي وصَف فيه بدقة الحرب التي تعيشها سورية منذ خمس سنوات بأنها حرب مصطلحات، بدأت، بشكل واسع، مع ظهور الأقمار الاصطناعية والأقنية الفضائية، وتوسّعت مع دخول الإنترنت إلى كل منزل، وأصبحت قادرةً على الوصول بالمصطلحات "المشوهة" إلى كل مواطن.
نعم، فالمواطن العربي، وليس السوري وحده، حينما ثار في الربيع العربي، إنما ثار لتصحيح تلك المفاهيم التي شوّهتها الأنظمة، والتي بدأ يعي المعنى الصحيح لها، من خلال الانفتاح الإعلامي على تجارب الدول.
من الغريب جداً أن يصل الوعي بدكتاتور عربي إلى هذا الحد بالإشكال الحقيقي الذي تعيشه بلاده، والأغرب أن يستحيل هذا الوعي حرباً شعواء ضد المجتمع، خصوصاً أن بشار منحه الشعب وقتاً كافياً لتصحيح ما شوّهه والده من مصطلحات، ويزيد عما احتاجه حزب العدالة والتنمية في تركيا من وقتٍ لتصحيح ما تشوّه من مصطلحاتٍ لدى الأتراك، ساهم وعيهم صحيح معانيها فقط في حمايته من الانقلاب.
جاء ما حدث في تركيا، أخيراً، أصدق تعبير عمّا يكابده شباب الربيع العربي من أزمات في بلدانهم، وعن أنبل مقاصدهم التي خرجوا من أجلها إلى الشوارع، ولعل هذا ما يفسّر تفاعلهم الكبير مع الحدث التركي، بقدر ما تفاعل معه الأتراك أنفسهم، فما رأيناه في الحدث التركي كان تحديداً هو ما تتوق إليه نفوسهم من معانٍ لمصطلحاتٍ ساهم تشويهها بسحق أحلامهم، كما ساهم دفاع الأنظمة عن مفهومها المشوه بتدمير دول بأكملها.
من تلك المفاهيم المشوهة التي رأينا في الحدث التركي معناها الحقيقي "العرس الديمقراطي"، ذاك المصطلح الذي يرتبط بمخيلة المواطن العربي بمسرحية تجديد البيعة لدكتاتورٍ، عبر استفتاء تحدّد أجهزة المخابرات نتيجته مسبقاً برقم من ثلاث خانات يشغلها جميعاً رقم (9)، أما بالمعنى التركي للمصطلح فقد كان نزول الناس للشوارع في مغامرةٍ قد تكلفهم حياتهم لإنقاذ قدسية ورقةٍ، وضعوها في صندوق، من تدنيس الحذاء العسكري، والذي يعون جيداً أنهم إن سمحوا له بالدوس على خيارهم، فإنه سيدوس رؤوسهم بعد ذلك. وهنا، يتضح المعنى الحقيقي لمصطلح "الديمقراطية" نفسها؛ وهي أن الشعب هو الوحيد المخوّل باختيار من يحكمه، وليس "حماة الديار" أو "خير أجناد الأرض" أو أي ألقابٍ أخرى، يخلعها الدكتاتور على عسكره، وهذا هو لب (وجوهر) مصطلح "الدولة المدنية" التي تحرّم على العسكر تجاوز مهمته في التدخل بالسياسة، وتجاوز دوره في حماية الحدود فقط من العدو الخارجي، أياً كانت ذريعة التدخل، فحماية العلمانية أو الحريات أو الفساد والمقاومة، وغيرها من ذرائع الانقلاب لدى العسكر، لا تنفع في مجتمعاتٍ تعي جيداً أن للديمقراطية سياقا وحيدا للتغيير، هو صندوق الاقتراع، ومن خلاله فقط تكافئ أو تعاقب حكامها. وهنا، بدا واضحاً في المشهد التركي معنى "حكم الشعب"، فالصراع في الساعات الأولى كان على خطب ود الشعب، وكسب تأييده، فقد كانت حركة الانقلابيين مبنيةً على اعتقادهم بأن الشعب التركي سيرفع الحذاء العسكري على رأسه، بمجرد رؤية الدبابات في الشارع، على طريقة الانقلابات العسكرية العربية، وراهن الرئيس الشرعي المنتخب أيضاً على إنقاذ الشعب خياره الحر، ونزل الشعب إلى الشارع، وحسم خياره لجهة الشرعية، ونجح في تغليب كفتها، وأثبت أنه الحاكم الفعلي.
لعل أهم المصطلحات المشوّهة التي تبدّى معناها الحقيقي في الحدث التركي كان "الوحدة
الوطنية"، وهو الأكثر استهلاكاً في خطاب الدكتاتوريات العربية، والذي تستخدمه فزاعةً في وجه أي دعوة إلى الإصلاح أو التغيير، وتتبجح بأنها الضامن لتلك الوحدة، وأن زوالها سيفتك بالمجتمعات وفسيفسائها الجميل، المتشكّل من التنوعين، العرقي والطائفي فيها، كيف لا.. وتلك الأنظمة عملت على مدار سنوات على منع تبلور هوية وطنية في البلدان العربية، وهي التي يُعد الانتماء لها الأساس في تشكّل الوحدة الوطنية، بحيث أصبحت مجتمعاتنا من الهشاشة بمكان، تتحول فيه الأزمات السياسية إلى حروبٍ أهلية، لا تعدم فيها الشعوب وسيلةً للانقسام على نفسها، حتى وإن لم تكن متنوعةً عرقياً وطائفياً، كالحالتين السورية والعراقية، فستجدها تنقسم إلى "إخوان" و"غير إخوان"، كما في الحالة المصرية، وهذا مردّه قطع الدكتاتوريات أي رابطٍ بين أبناء المجتمع الواحد عبر تغيير معنى مصطلح "الوطن" ومشتقاته "الوطنية" و"المواطنة"، وربطها بشخص الحاكم نفسه، بحيث يصبح هو الوطن، ومقياس الوطنية هو القرب منه ومحاباته، وما المواطنة إلا مجموعة ممارسات في طاعته.
أما في الحالة التركية، فقد كان "التلاحم الشعبي" والوحدة الوطنية الأكثر روعةً في المشهد، فقد نزل الأتراك، بمختلف توجهاتهم السياسية، إلى الشارع، بعد مناشدة الرئيس لهم ببضع كلمات عبر "سكايب"، لإنقاذ بلادهم وديمقراطيتهم، وليس شخصاً بعينه، حاملين فقط علم بلادهم، من دون أعلام حزبية أو صور للحاكم، وهذا ما لم يعتده إعلامنا العربي الذي ارتبك في تغطيته الساعتين الأوليين من الانقلاب، إذ ظنوا أن الحشود التي تلتف حول مدرعات الجيش نزلت تؤيد الانقلاب، ولعل مشهد الكهل التركي الجالس في الشارع يناشد الجنود الانقلابيين باسم الأمة التركية أن يعودوا إلى ثكناتهم، وألا يعيدوا تجارب الانقلابات السابقة إلى ذاكرة الأتراك، أكبر دليل على وعي هذا الشعب بهويته الوطنية، وعمق انتمائه لها، وللديمقراطية التي تشكل أبرز مكوناتها. وكان هذا هو الدافع وراء نزول العلمانيين، إلى جانب الإسلاميين واليساريين، إلى الشارع، دفاعاً عن هويتهم والتفاف الأحزاب التركية العلمانية حول الشرعية، حتى وإنْ كان من يمثلها يختلف معهم أيديولوجياً، وهذا ما يفند وجهة نظر سائدة لدى المثقفين العرب أن الهوية القومية أو الإسلامية تتعارض مع تشكل هوية وطنية، فهم لم يقفوا خلف طاغيةٍ لإضفاء الشرعية عليه، بذريعة أخونة الدولة، كما في الحالتين، المصرية والسورية، والغريب أن العلمانيين الأتراك حينما نزلوا إلى الشارع كانت مساجد اسطنبول، المدينة التي أعيش فيها، تكبّر وتدعو الناس إلى النزول إلى الشوارع، ولم يثنهم ذلك عن النزول، ولم يدفعهم إلى تأييد الانقلابيين الذين برّروا حركتهم بحماية العلمانية، كما فعل عديدون من مستحاثات اليسار العربي، وما بعد حداثييه الذين فضلوا الدكتاتورية على المشاركة في ثورةٍ خرجت من المساجد في سورية. وهنا يضاف مصطلحا "النخبة" و"المثقفين" إلى قائمة المصطلحات العربية التي طاولها التشويه.
لطالما شكلت التجربة التركية نموذجاً ناجحاً لمفاهيم ومصطلحات فشلت في العالم العربي، من قبيل إمكانية تطبيق العلمانية في بلد مسلم، وقدرة الأحزاب الإسلامية على الحكم، وتحقيق نهضة حقيقية، من دون المساس بالعلمانية، والعودة بالبلاد إلى القرن الأول الهجري، بل نجحت في إثبات مرونة الإسلام، وقابليته للتكيّف مع المفاهيم الحداثية، وفي مقدمتها الديمقراطية. لذا، سيبقى هذا النموذج يقض مضجع الأنظمة التي تراقصت فرحاً، حين سمعت بالانقلاب، ويغذّي حلم الثوار العرب بإمكانية تحقيق أحلامهم والانتقال بدولهم نحو الحرية والديمقراطية.
C4B83CF7-C90A-40E5-87D1-D3ADA0692303
C4B83CF7-C90A-40E5-87D1-D3ADA0692303
سقراط العلو

كاتب وباحث سوري في المركز الألماني للابحاث، مختص في الشؤون الاقتصادية والبحث التاريخي الاسلامي.

سقراط العلو