انحسر الربيع العربي ولم يفشل
يعدُّ سؤال مقدمة المقالة من أسئلة الساعة الحاضرة بقوة. ولعل سؤالاً آخر يلحق به، في حال الإجابة بأنه لم يفشل بعد، ويتعلق بأبرز التحديات التي تواجه الربيع العربي، والمعوقات التي قد تعطله؟
بدايةً، لا بد من توضيح أننا لم ندخل مرحلة "ربيعٍ عربي"، لنتحدث عن انحساره، أو فشله. الأدق أن نقول إننا، منذ أواخر عام 2010 ومطلع عام 2011، دخلنا مرحلة "صناعة الربيع العربي". وما بين دخول "الربيع" وصناعته بون شاسع. فإذا كنَّا ممن يقولون إننّا كنَّا قد دخلنا في مرحلة "الربيع العربي"، إذن، فإن ما نعيشه الآن خريف أو شتاء قاسيان. وإذا كان الحديث عن "صناعة الربيع"، فإن ما يجري، اليوم، هو أشبه بتقلبات الطقس التي تسبق "الربيع" وترافقه، بمعنى أن ثمة أياماً باردةً وممطرةً وعاصفةً، وأخرى دافئة وصافية ووادعة.
من هنا، إن اختلاف مقاربة الرؤية وزواياها تعيننا، من ناحية، على تلمس أبعاد الصورة بشكل أفضل. ومن ناحية أخرى، تبقى جذوة الأمل بالتغيير قائمة، فما بين الخريف والشتاء من ناحية، وتقلبات طقس الربيع، من ناحية أخرى، فارق كبير.
الآن، لماذا أقول إننا في مرحلة "صناعة الربيع"، ولم ندخله أصلاً؟
ببساطة، لأَن المرحلة التي أطلقنا عليها "ربيعاً عربياً" كانت أقرب إلى انتفاضاتٍ، محلية (تونس مثلا) أو نخبويةٍ (مصر مثلا)، ثمّ توسعت شعبياً بسرعة، جرّاء تراكمات الغضب عند الناس، بسبب عقود من القمع والبطش والظلم والفساد والتخلف وغياب الأفق والمستقبل.
كانت هذه الانتفاضات ثورات غضبٍ محتقن على الواقع الكئيب، لكنَّها لم تستبطن مشروعاتٍ نهضويةً ومستقبلية. همُّها الأول كان إسقاط أنظمة القمع، لكنَّها لم تقدم مشاريع فكرية ومؤسساتية بديلة. ولذلك، ما أن سقطت واجهات أنظمة، كما في تونس ومصر واليمن، حتى تداعت بنى تلك الأنظمة، بدعمٍ خارجيٍّ، لإعادة امتلاك زمام المبادرة. وساعدها على ذلك تشرذم قوى التغيير، بكل خلفياتها الأيديولوجية، وتنافر "مشاريعها" التي "طبخت" على عجل. وفي ليبيا، نشهد اليوم عبث أصابع الخارج في البلد، وأفرد ليبيا، هنا، لأن نظامها القمعي البائد اجتث إلى حدٍّ كبير على عكس التجارب الأخرى، لكنَّ هذا الاجتثاث أحدث فراغاً مؤسساتياً في البلد، من ناحية أخرى.
وهكذا، وفي ظل هذه الفوضى في الدول التي أَصبحت تعرف بـ "دول الربيع العربي"، وفي ظل الوضع الكارثي في سوريا، والذي لا يمكن فصل إِجرام النظام فيه عن معادلاتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ، لاستنزاف روح التغيير العربية في كل الفضاء الجيو-استراتيجي للمنطقة، فإننا نكون أمام تراجع روحية التغيير، وانحسارها، ولكنَّنا، وفي كل الأحوال لسنا أمام انكسار.
لذلك أعود وأقول: نحن في مرحلة "صناعة الربيع العربي"، وزهوره لم تتفتح بعد، وما زال أمامنا وقتٌ طويلٌ لتحقيق ذلك الحلم، لكنَّنا بدأنا خطوة الألف ميل، منذ أواخر عام 2010. وينبغي أن يكون مفهوماً أنه ستكون هناك تضحيات أكبر مما مضى، وعقبات أكبر. وكما أنه ستكون هناك إنجازات، ستكون هناك إخفاقات، لكننا في المحصلة، وهذا هو الأهم، خرجنا، كعرب، من حالة الركود والسكون السلبي التي كانت سائدة.
أما عن أبرز المعوقات التي تواجه "ربيعاً عربياً"، لا بدَّ من التأكيد من جديد، أنه لن يكون هناك "ربيع عربي"، من دون مشروع مجتمعيٍ، يتوافق عليه الجميع، أو الأكثرية الفاعلة. ولا بد أن يتضمن هذا التوافق مسائل الدين ودوره في المجتمع والدولة، الهوية، وقواعد اللعبة ومعاييرها. أيضا، إن كنَّا تعلمنا شيئاً من تجاربنا في مصر وتونس واليمن، فإن أهم ما تعلمناه أن هذه الأنظمة ليست واجهات وأشخاصاً فقط، بل هي شبكات مصالح مدنيةٍ وأمنيةٍ وعسكريةٍ وبيروقراطية، متشابكةٍ مع أبعاد إقليمية ودولية، وَخَمِرَت عجينتها عقوداً طويلة، ولن يكون ممكناً إحداث تغيير حقيقي، إن لم يتم تفكيك شبكات المصالح هذه.
موجز القول، إن أهم التحديات والمعوقات التي تواجه صيرورة "صناعة الربيع العربي" هي:
القدرة على الحفاظ على روحية التغيير والثورة لدى الشعوب، وانتشالهم من حالة الإحباط التي يشعر بها كثير منهم. والقدرة على إيجاد توافق مجتمعي، أو نخبوي، فاعل على مشروع وطني شامل، يتناول العناصر الأساسية، والتي أشرت إليها سابقا، وتحديداً دور الدين ومكانته في الدولة والمجتمع، الهوية، وقواعد اللعبة. القدرة على تفكيك بنى أنظمة متوغلةٍ، بشكل أخطبوطيٍّ في مفاصل الدولة والمجتمع، ومرتبطة بتحالفات إقليمية ودولية معقدة. وأخيرا، واحدة من أهم دروس انحسار روحية التغيير العربية، أن كثيرين من أبناء شعوبنا، وبسبب عقود، بل وقرون، من الاستبداد المسلط عليهم، فقدوا القدرة على تقدير قيم العيش بكرامة وحرية، وجعلتهم عرضةً لإمكانية إحداث عمليات غسيل دماغ لهم من جلاديهم. ولذلك، سيكون التحدي الأبرز إعادة تأهيل الإنسان العربي، وتحرير عقله ووعيه، وتمكينه، كذلك، من تمييز من يقف في صف الثورات ومن يركب موجتها... وهذا لن يكون من دون مشروع نهضوي جمعويّ.