انتصار السيسي على مصر!

29 سبتمبر 2019
+ الخط -
تتغير وجوه وأسماء الممسكين بالسلطة، ولا تتغير عقلية مؤيديهم أبداً. 

هكذا قلت لنفسي حين سمعت صيحات الاحتفال تتعالى من "أكاونتات" مؤيدي نظام السيسي، لأن النظام أحبط التظاهرات التي دعا إليها المقاول والممثل محمد علي، بعد أن نجح في تحويل المدن المصرية إلى ثكنات عسكرية، وأغلق كل مداخل ومخارج ميادينها الرئيسية، وقام بحملة اعتقالات ضخمة طيلة الأسبوع الماضي أخذت العاطل والباطل، وضمت من شارك في مظاهرات الجمعة قبل الماضية ومن لم يشارك فيها ومن تحفظ عليها. 

ذكّرتني فرحة مؤيدي السيسي العارمة ـ سواءً كانوا يؤيدونه انتفاعاً منه أو خوفاً من رحيله أو مجرد حب في القمع والسلام ـ بفرحة مماثلة صدعنا بها مؤيدو حسني مبارك عقب قيام نظامه بإحباط الإضراب الذي دعت إليه حركة ستة إبريل في عام 2009، وهي دعوة واجهها النظام بنفس الطريقة التي جرت الجمعة الماضية، مع اختلاف طفيف في التفاصيل، ليقول مؤيدو نظام مبارك بالأمس نفس ما يقوله مؤيدو نظام السيسي اليوم عن المؤامرات الدولية على مصر وعن هشاشة المعارضة وخوائها وعن محبة الشعب للرئيس القائد المسيطر على البلد، والذي سيحكمها حتى يموت ويورثها لمن بعده، دون أن ينتبه أحدهم إلى أن إغلاق الأبواب والنوافذ في وجه دعوات التغيير السلمي، يدخل البلاد في نفق مظلم ويقودها إلى انفجار حتمي، سيدفع الكل ثمنه مؤيدين ومعارضين، لأن البلد الذي ينتصر فيه الحاكم على معارضيه بقوة القمع، هو بلد خاسر لا محالة.

كنت في اليوم التالي لمهرجانات الفرحة وزفات التأييد التي قام بها أنصار مبارك في الصحف والبرامج والشوارع، قد كتبت في صحيفة (المصري اليوم) مقالاً بعنوان (قبضنا على الغضب يا افندم)، قلت فيه بالنص ما يلي: 

"من غير مزايدة ولا جعجعة ولا تشنج ومن أعماق قلبي أقولها: مبروك لمصر نجاح إضراب ستة إبريل.

نعم نجح إضراب ستة إبريل، لأن الدنيا كلها لم تسمع عن إضراب فاشل تحشد أقدم دولة بوليسية في العالم من أجله كل ضباطها وجنودها ومخبريها الشرطيين والصحفيين والبرامجيين والجامعيين، وعلم الصحافة لم يشهد في تاريخه المديد إضرابا فاشلا يحتل مانشتات الصحف الحكومية الرئيسية التي أظهرت على طريقة الدبة التي بطحت صاحبها كم هو متهرئ ومذعور وبائس ذلك النظام الذي يهز طوله وعرضه لقمع من يطلق هو عليهم "شوية عيال"، وتاريخ مصر الذي لا يهتم به حكام مصر الآن المشغولون أكثر بالجغرافيا لأنها "تلزمهم أكتر في البيع"، سيُسجّل عليهم في صفحات عاره أنهم قرروا تعويض هزائمهم المتوالية في شتى المجالات بالانتصار بأقدام وبيادات بعض رجالهم المنتسبين إلى الرجولة زوراً، على فتيات كفر الشيخ اللواتي صدقن دعوة السيدة سوزان مبارك إلى ضرورة المشاركة السياسية للمرأة. 

قولوا لنا بالله عليكم متى شهدت الدنيا إضرابا فاشلا يتوفر له كل هذا القدر من المحللين والمنظرين والملغوصين والمهجصين، الذين لم يخرج الواحد منهم في شبابه في مظاهرة ضد أي احتلال أو قمع إلا ليلتصق ببناتها أو شبانها، ولم يعلن أحدهم عن رأيه ولو حتى في صحيفة (الوسيط)، ولم يفعل شيئا عليه القيمة وهو طالب سوى صَمّ كتب التعليم وطرشها في ورقة الإمتحانات، ثم عندما يحتل موقعا ما بفضل ربطه للحمار مطرح مايعوز الحمار، وبركة تقارير الأمن التي تزكيه إما لأنه ماشي جنب الحيط، أو لأنه كان يتسلق على الحيط ليلحق بموعد تسليم التقارير في زملائه، إذ به يتحول "فجأتن" إلى قيادة طلابية مخضرمة لها باع في فك العمل الطلابي، ويتمترس في عموده الذي يدعو القراء الله ليل نهار أن يقع على رأسه، فيتخذ من ذلك العمود منصة إطلاق لروشتات الوطنية لشباب مستقل لم يكن يوما "بتاع حد"، ثم يجري بالليل إلى استديوهات الفضائيات المكيفة لكي يتصبب قلقاً على البلد التي تهددها الفوضى، وكأنها كانت قبل إضراب ستة إبريل، وطن المنطق وأرض العدالة وبلد الاتساق مع النفس. 

 

يا أيها المنتفشون بزهو إنتصاركم المظفر على الأمل وإحباطكم الحاسم لمجيئ بكره، والله العظيم تلاته لو كان فيكم رجل ذو فكر مبارك أو سياسة نظيفة أو عقل رشيد أو نهج حبيب أو منطق يبعث على السرور، لقبلتم رؤوس وأيدي هؤلاء الشباب والفتيات ولأخذتموهم في أحضانكم وحاجيتم عليهم واستمعتم إليهم وتعلمتم منهم أو حتى على الأقل تحاورتم معهم، ولدعوتم كل شاب في مصر لأن يكون مثلهم، ولما تبطرتم على نعمة أن يرزق الله مصر بشباب "زي الورد" لم يرفعوا المصاحف على أسنة إحباطهم، ولم يشهروا في وجوهكم تفسيراتهم المتطرفة للنصوص، ولم "يتدوروا على بعضهم" بحثا عن علامة الصليب التي تحدد طريقة المعاملة، ولم يتكتلوا خلف أسوار الكنيسة، ولم يهربوا إلى المخدرات تعاطيا وتجارة وعشقا، ولم يتركوا بلادهم لكم، ليرموا أنفسهم في قوارب الهجرة غير الشرعية، ولم ينذروا أنفسهم لجروبات التفاهة والانحطاط على الفيس بوك، ولم يقضوا حياتهم في شتم البلاد التي باضت لآبائهم ذهبا والشكوى من ناسها البيئة وأهلها العشوائيين وحالها اللي مش ولا بد، ولم يقرروا أن يطرمخوا على حقوقهم، ولم يرتضوا أن يكونوا بلياتشوهات تمسك أوراقا وتتحرك بالريموت الكونترول في الزيارات المفاجئة التي لا تكف عن مفاجئتنا بمدى النفاق المتراكم فيها، ولم يشاركوا في ألعابكم الممجوجة التي احتكرتموها منذ أكثر من خمسين عاما وصرتم كباتنها وحكامها وجمهورها، ولم يحذوا حذو ملايين غيرهم قرروا أن يُسَلِّكوا أمورهم بمعرفتهم في دهاليز البلد التحتية التي تزداد كل لحظة تشعبا وخطورة واستعصاء على الشكم.

ياسادة الغضب الذي أنتم فرحانون لأنه لم يتفجر بفضل الأثر الرجعي لقمع "ستة إبريل اللي فات" ستبكون يوماً ما ندماً، لأنه لم يتفجر في صورة اعتصامات سلمية وإضراب حضاري ومظاهرات تجأر بشكواها من فسادكم وظلمكم، فالتاريخ الذي كنتم تزوغون في حصصه يعلمنا أن الغضب عندما تغلق في وجهه الباب، سيخرج لك يوما من كل الشبابيك عنفا وعدوانية وسطوا مسلحا وتحرشا جنسيا وفتنة طائفية ونهبا للمال العام واستحلالا للمحرمات ويأساً مسرطناً لا يجدي معه الكيماوي ولا المسيل للدموع ولا الأمن المركزي ولا الصحف "العضاضي" ولا العلاوات الفشنك ولا هتافات الفخر المنبعثة من أجهزة اللاسلكي " كله تمام سعادتك.. قبضنا على الغضب ياافندم".  

...

بعد أقل من عامين من هذا المقال، ثبت أن قدرة نظام مبارك على القمع والسيطرة الكاملة على الغضب، لم تكن مطلقة ولا أبدية، وأصبح الشباب الذين قمعهم وسجنهم وخوّنهم في مقدمة الثائرين عليه، لكنهم لم يكونوا وحدهم، بل كانت معهم حشود مليونية من المواطنين الذين تصور النظام صمتهم أبدياً، وبالتأكيد لم ينتبه أحد من مؤيدي النظام إلى ما حدث بعد ثورة يناير، ولم يقم بتحليل دور القمع المباركي في حدوث كل ما شهدته البلاد من اضطرابات وقلاقل، وكل ما عانته من سنوات طويلة من قتل السياسة وتأميمها وتخريب الإعلام والنقابات والأحزاب والجمعيات، بل انشغلوا بالحديث عن المؤامرة الدولية والمخططات الكونية، وتحولوا على الفور من تأييد مبارك إلى تأييد السيسي، متصورين أن موت قلبه الذي بدا جلياً في مذبحة رابعة وما سبقها وما تلاها من مذابح، سيجعله بطلهم المفضل القادر على قمع أي صوت للمعارضة إلى الأبد، وهو نفس ما اعتقده من قبلهم مؤيدو صدام حسين وحافظ الأسد ومعمر القذافي وعلي عبد الله صالح ومن سبقهم من الطغاة ومن سيلحق بهم من الطغاة، مع أن الغضب لا يختفي إلا إذا اختفت أسبابه، وكل تأخير له بالقمع، هو مساعدة له على مزيد من الاشتعال، سيدفع ثمنه مؤيدو القمع وضحاياه، لكنهم في الغالب الأعم لا يدركون صحة ذلك، إلا بعد فوات الأوان. 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.