يتجه الناخبون البريطانيون اليوم الخميس إلى صناديق الاقتراع، بعد خمسة أسابيع من الحملات الانتخابية المكثفة، لانتخاب برلمان جديد من المفترض أن يُخرج البلاد من حالة الشلل التي تعيشها منذ عام 2017، بسبب قضية "بريكست". وتشير استطلاعات الرأي إلى تقدم حزب المحافظين على منافسه العمال طوال فترة الحملات الانتخابية، إلا أن طبيعة النظام الانتخابي البريطاني تجعل التنبؤ بتركيبة البرلمان المقبل أمراً معقداً. فقد سبق أن رجّحت استطلاعات الرأي فوز حزب المحافظين بالأغلبية البرلمانية في الانتخابات العامة عام 2017، قبل أن تكشف النتائج وصول البلاد إلى برلمان معلّق. ولا يعتمد النظام الانتخابي البريطاني على التمثيل النسبي للأحزاب في البرلمان، بل يعتمد تمثيل مرشح وحيد لكل دائرة انتخابية من الدوائر الـ650، التي هي أيضاً عدد المقاعد في البرلمان. عليه، يمكن أحد الأحزاب البريطانية الفوز بتمثيل إحدى الدوائر الانتخابية إذا حصل مرشحه على أكبر عدد من الأصوات فيها، بغضّ النظر عن الفارق بينه وبين أقرب منافسيه في تلك الدائرة. ويصبّ هذا النظام الانتخابي في مصلحة الأحزاب الكبرى، مثل العمال والمحافظين، أو حتى القوميين الاسكتلنديين في اسكتلندا، بينما يعقّد من إمكانية حصول الأحزاب الأقل تأييداً على تمثيل يتناسب مع شعبيتها. وعلى سبيل المثال، قد يحصل حزب الديمقراطيين الليبراليين على تأييد 15 في المائة من البريطانيين، ولكنه سيفشل في الحصول على 15 في المائة من المقاعد في البرلمان، لأنه قد يحلّ في المركز الثاني أو الثالث في أغلب الدوائر الانتخابية.
حكومة أغلبية محافظة
في الحسابات، إذا تمكن حزب المحافظين من تحقيق أفضل النتائج، فسيعمل رئيس الوزراء بوريس جونسون على تشكيل حكومة بغالبية تتجاوز 20 مقعداً، ما يمنحه اليد المطلقة في تطبيق وعوده الانتخابية، أو حتى تجاوزها. ويُعَدّ مثل هذه النتيجة نصراً لرؤية جونسون لمستقبل بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي في 31 يناير/ كانون الثاني المقبل، وسيكون مدعوماً حينها بغالبية من نواب محافظين يوافقونه الرأي بشأن "بريكست"، بخلاف ما كان الوضع عليه في عهد رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي، التي قادت حزباً منقسماً على نفسه حول شكل "بريكست".
النتيجة الإيجابية ستسمح لجونسون بتحقيق "بريكست"، على أن يلي ذلك اتفاق تجاري مع الاتحاد الأوروبي يحقق الحد الأدنى من التبادل التجاري السلس بين بريطانيا والسوق الأوروبية المشتركة، في موازاة إدارة دفة التجارة البريطانية باتجاه الولايات المتحدة وآسيا، سعياً وراء صفقات تجارية حرة مع كبرى الاقتصادات العالمية خارج الاتحاد الأوروبي. كذلك ستمنح خمس سنوات أخرى في داوننغ ستريت، جونسون القدرة على تطبيق سياساته بطريقة قد تماثل الحرية التي تمتعت بها حكومات مارغريت ثاتشر في الثمانينيات، والتي أعادت فيها تشكيل المجتمع والاقتصاد البريطانيين. كذلك فإنه إذا نجحت حكومة جونسون في التعافي الاقتصادي بعد "بريكست"، فقد يمهد ذلك أيضاً لخمس سنوات تالية برئاسة الوزراء في انتخابات عام 2024.
إلا أن البعض يرى أن جونسون قد يسلك طريقاً مختلفاً إذا تخلص من قيود التأييد البرلماني لسياساته. فقد ينطلق مدفوعاً بالواقعية السياسية إلى التوصل إلى اتفاق تجاري وثيق مع الاتحاد الأوروبي، خصوصاً إذا كانت البدائل مع الولايات المتحدة مثلاً صعبة المنال. وقد يستغل جونسون هذه الأغلبية للدفع بإصلاحات محافظة أكثر راديكالية من برنامج حزبه الانتخابي، باتجاه المزيد من خصخصة القطاع العام. كذلك قد يسعى إلى تقييد هيمنة المشرع على السلطة التنفيذية، في محاولة لتفادي ما جرى في الأشهر الماضية من عرقلة البرلمان لخطط حكومته.
برلمان معلق
أما في شأن حصول المحافظين على أكبر عدد من مقاعد البرلمان، وفشلهم في تجاوز عتبة 50 في المائة، فسيعود الوضع إلى ما كان عليه منذ انتخابات عام 2017. حينها تحالفت تيريزا ماي مع الحزب الاتحادي الديمقراطي الإيرلندي الذي منحها الأغلبية البرلمانية التي كانت تحتاجها، غير أن الوضع أمام جونسون لن يكون بالسهولة ذاتها، إذ يصعب في ظل الأوضاع الحالية رؤية أي حزب مستعد للتحالف مع المحافظين مع معارضة جميع الأحزاب الأخرى خطة جونسون حول "بريكست".
الحزب الاتحادي الديمقراطي يعارض حالياً خطة جونسون، بسبب تضمينها إمكانية فصل إيرلندا الشمالية عن بريطانيا، في ظلّ احتمال نصب نقاط التفتيش الجمركية بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي في البحر الإيرلندي بدلاً من الحدود بين إيرلندا الشمالية والجمهورية الإيرلندية. أما القوميون الاسكتلنديون والديمقراطيون الليبراليون، فيعارضون "بريكست" كلياً، ولا نقاط مشتركة بين المعسكرين. ومن دون حصول جونسون على الأغلبية في البرلمان، لن يتمكن من تمرير اتفاق "بريكست"، وقد تتجه بريطانيا حينها إلى "بريكست" من دون اتفاق، أو إلى تأجيل جديد لموعده.
هنا سيرفض الاتحاد الأوروبي العودة إلى التفاوض من جديد، ما قد يدفع جونسون إلى تقديم تنازلاً كبيراً، بقبول التوجه إلى استفتاء ثانٍ على "بريكست"، واضعاً صفقته أمام الناخب البريطاني في مواجهة خيار البقاء في الاتحاد الأوروبي. وفي مثل هذا السيناريو قد يحصل جونسون على دعم الديمقراطيين الليبراليين، لكن الحزب سيفكر مرتين قبل الدخول في تحالف جديد مع المحافظين، تحديداً بعد الضرر الذي لحق بسمعته نتيجة للحكومة الائتلافية في عهد ديفيد كاميرون 2010-2015، التي أقرت سياسات تقشف سيئة الصيت. أما إذا أراد جونسون الحصول على دعم القوميين الاسكتلنديين، فسيكون الثمن حينها استفتاءً جديداً على الاستقلال الاسكتلندي. وقد يتبع ذلك، في حال التوجه إلى استفتاء جديد من عدمه، التوجه إلى انتخابات برلمانية مبكرة أخرى، سعياً للحصول على أغلبية برلمانية.
وفي حال فشَل المحافظين أو العمال في الحصول على الأغلبية البرلمانية، مع تقارب في التمثيل البرلماني للحزبين، قد تتجه بريطانيا إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، على الأرجح برئاسة جيريمي كوربن. وسيسبق ذلك مفاوضات طويلة بين الأحزاب البريطانية، بينما يبقى جونسون في منصبه مسيِّراً لأعمال الحكومة، حتى تشكيل الحكومة الجديدة، وهو ما قد يستغرق عدة أسابيع. وسيكون القوميون الاسكتلنديون اللاعب الأكبر في مثل هذا السيناريو، بفعل تشكيلهم الكتلة الثالثة في البرلمان. كذلك سيكون شرط الاستفتاء على الاستقلال الاسكتلندي مفتاح الدخول في أي تحالف مع الحزبين الرئيسيين. وكانت رئيسة "الاستقلال الاسكتلندي" نيكولا ستورجن، قد نفت مراراً إمكانية العمل مع المحافظين، بينما أبدت مرونة في دعم حكومة يرأسها جيريمي كوربن. ولا يعني ذلك بالضرورة الدخول في ائتلاف حكومي، بل يكفي أن يدعم نواب القوميين الاسكتلنديين سياسات الحكومة العمالية في البرلمان البريطاني عند التصويت عليها.
مع العلم أن الديمقراطيين الليبراليين أبدوا استعدادهم سابقاً لدعم حكومة عمالية، وإن مؤقتاً، مقابل التوجه إلى استفتاء ثانٍ على "بريكست". ويدعم الديمقراطيون الليبراليون البقاء في الاتحاد الأوروبي، وقد تشمل شروطهم تنظيم الاستفتاء في القريب العاجل، بدلاً من الانتظار حتى يتمكن كوربن من التوصل إلى اتفاق "بريكست" جديد مع بروكسل. وقد يكون الخيار الآخر إمكانية تشكيل حكومة تشمل كلاً من العمال والديمقراطيين الليبراليين والقوميين الاسكتلنديين، وإن كانت إمكانية استمرارها على المدى البعيد أمراً مستبعداً. وهو ما يعزز احتمال الانتخابات المبكرة فور تسوية وضع "بريكست".
حكومة أغلبية عمالية
يتنافى هذا الاحتمال مع استطلاعات الرأي كافة منذ بدء الحملات الانتخابية، ما يجعل من إمكانية وقوعه أمراً مستبعداً. فلكي يحصل العمال على الأغلبية في البرلمان، يحتاج لتعزيز موقفه في اسكتلندا، وهو ما فشل فيه مراراً منذ صعود نجم القوميين الاسكتلنديين. ولكن وإن حصلت المفاجأة وشكل العمال حكومة الأغلبية، فستدخل بريطانيا عهداً جديداً، قد تفتتحه بإلغاء "بريكست" بعد استفتاء ثانٍ يُخيَّر فيه البريطانيون بين صفقة كوربن وإلغاء "بريكست".