08 نوفمبر 2024
انتخابات المغرب... جولة في معركة الديمقراطية
محمد طيفوري
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
استكثرت أصواتٌ صحافيةٌ مغربية، ومعها محللون سياسيون، ما شهدته الانتخابات التشريعية في المغرب، يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، من خروقاتٍ سافرة، وحضورٍ للمال الانتخابي، وتدخل أطرافٍ يتوجب عليها الحياد في العملية الانتخابية...، فأقامت مأتماً وعويلاً على انتكاسة الديمقراطية في المغرب، والعودة إلى مغرب الزمن البائد بعد هذا الاستحقاق.
وذهب بهم الأمر إلى حد التبخيس الكلي لهذه الممارسة الاشتراعية، بمجرد أن جروحاً، بعضها غائر، لحقت المشهد العام، لثاني اقتراع تشريعي تشهده البلاد بعد ربيعٍ مغربيٍّ، قرّر أصحابه أن يضفوا عليه صبغةً خاصةً منذ انطلاقته في فبراير/ شباط 2011.
من المبالغة حقا أن ينشد هؤلاء الحالمون استواء العملية الديمقراطية في نسختها "المثالية"، على شاكلة أعرق الديمقراطيات في العالم، مثل بريطانيا، السويد، سويسرا...، في ثاني موعد انتخابي للمغرب، بعد إقراره دستوراً جديداً. كان النصيب الأكبر لمعركة تنزيله في الولاية الحكومية السابقة، والتأويل الديمقراطي لمقتضيات المتن الدستوري.
صحيح أن من تلك الممارسات ما يمسّ جوهر اللعبة الديمقراطية، لكنها تظل مقبولةً في إطار تمرين البلاد على الاحتكام لشرعية الصناديق، مرة كل خمس سنوات، من أجل مواصلة المسير نحو نادي الدول الديمقراطية، فربما تناسى هؤلاء أنه، وإلى الأمس القريب، كانت أصوات المواطنين تنقلب، عند إعلان النتائج، لتصير تعبيراً عن رغبة السلطة، لا عن إرادة المواطنين.
وصحيح كذلك أن هذه المزايدات غير مقبولة بتاتاً من هؤلاء، لأنهم أدرى، قبل غيرهم، بتلك السيناريوهات التي وضعت على جدول التنفيذ، وما كان يخطّط له في الكواليس. لولا الحكمة والتعقل اللذان سادا في آخر اللحظات، وعودة الإيمان بأن اللعب لا ينبغي أن يصل إلى نتائج الصندوق، لأن من بين معاني ذلك أن ثابت الاستقرار الذي أضحى محط إجماع المغاربة سوف يتم الخروج عنه، ويفتح البلاد على المجهول.
نجح الشعب المغربي في هذا الاختبار، وفرض على الدولة أن تحترم إرادته، وأضحى رقماً مهماً في المعادلة المؤطرة للمشهد السياسي المغربي. كما أبان عن مستوىً عالٍ من النضج، حين استوعب المرحلة بتفاصيلها الصعبة، وسياقاتها الداخلية والإقليمية وحتى الدولية. ما ولّد لديه مناعةً ضد أي طعم يقدم إليه من المخزن، أو الدولة العميقة، بغية تجييشه للمطالبة بالرجوع إلى حقبة ما قبل الربيع المغربي.
ما أكثر الصور التي تظهر أن واقعة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، على الرغم من كل ما رافقها من تحفظاتٍ لدى بعضهم، حقنة أخرى للديمقراطية، يتلقاها الشعب المغربي ضمن مسلسل تقوية مناعته ضد فيروس السلطوية.
أولا: انتظر بعضهم أن يأتي تصويب المغاربة في هذه الانتخابات وفق قاعدة "التصويت العقابي"، نظرا لسياسة التقشف وبعض القرارات اللاشعبية التي اتخذتها السلطة التنفيذية في فترة ولايتها. لكن العكس هو الذي حدث، إذ جاء التصويت سياسياً بامتياز؛ ما يعني أن درجة التسييس في أوساط المجتمع المغربي مرتفعة، نقيض ما يروج من عزوف عن الاهتمام بالشأن السياسي.
ثانيا: ترى الأصوات الرافضة اللعبة، بقواعدها كافة، أن نسبة المشاركة التي حدّدت في 43% دليل على فشل مسلسل الإصلاح، قياساً إلى النسب التي سجلت في الانتخابات البرلمانية السابقة (45%)، أو الانتخابات المحلية للسنة الماضية التي بلغت 53%. قول غير سليم ألبتة، فأصحابه ينسون، أو بالأحرى يتناسون، أمرين أساسيين: أحدهما، أن العرف جرى تاريخياً أن تكون نسب المشاركة في الانتخابات المحلية أكثر من نظيرتها في الانتخابات البرلمانية، لاعتبارات القرابة والقبلية... وما إلى ذلك من العوامل المتدخلة. والآخر، أن هذه النسبة سجلت من أصل 16 مليون مسجل في اللوائح الانتخابية برسم سنة 2016، بينما النسبة القديمة (45%) كان من أصل 12 مليون مسجل سنة 2011.
ثالثا: كان التصويت عقلانيا بالأساس، وبناءً على خطاب سياسي واضح، ولغة بسيطة "شعبوية"، ترمي إلى تحقيق الغاية التواصلية مع المواطن. وهو ما نجح أعضاء الحزب المتصدّر الانتخابات في تحقيقه نسبياً، قياساً إلى باقي الأحزاب؛ إذ لا أحد سوف يصدّق "خرافة" أن مليونا و800 ألف صوت التي حاز عليها حزب العدالة والتنمية كانت كلها من مغاربةٍ يتقاسمون معه الرؤية الدينية نفسها، والتراث الأيديولوجي نفسه. قطعاً لا، خصوصا عندما نعلم أن جزءاً من أصوات البورجوازية المغربية، وكذلك ثلة من شباب اليسار ذهب إلى حساب حزب المصباح، وهذه الفئات أبعد ما تكون عن مرجعية حزب العدالة والتنمية الدينية.
رابعاً: فرصة لتنزيل قاعدة ذهبية في أعرق البلدان الديمقراطية، تتعلق بربط المسؤولية بالمحاسبة، وذلك حين قرّرت الأمانة العامة لحزب المصباح ترشيح كتيبتها الوزارية كاملةً، مانحةً بذلك المواطنين الفرصة لتقييم أداء الوزراء في فترة انتدابهم، تاركين أمر الحسم بين يدي الشعب، ليجدّد الثقة في من يراه أهلا لها، وينزعها عمّن لا يستحقها.
خامسا: سيادة القرار الشعبي بفرض انقلاب جذري في المشهد السياسي رأسا على عقب، وتحوّل المواطن النكرة الذي كان على هامش اللعبة إلى عنصر جوهري في العملية بأكملها، فقد فرض المواطن البسيط نفسه على الأحزاب السياسية، وحتى على المؤسسة الملكية، التي ألزمت نفسها باختيار رئيس الحكومة مما تفرزه نتائج الصناديق. وبذلك، أضحت إرادة المواطن تدخل في اعتبارات هذه المؤسّسة، ليتحول على هذا الأساس إلى الرقم الأصعب في المعادلة السياسية.
قد يكون مستوى الشفافية المطلوب في هذا الموعد الانتخابي غير متحقق، وقد تكون أقل نزاهةً من سابقتها، كما يقول كثيرون، وقد تكون أحزابٌ قبلت بالمشاركة إيماناً منها بتوفر شروط الحد الأدنى فقط، لا القواعد المثالية للتنافس، وقد.. وقد إلى العشرة أو أكثر. لكن، تبقى الحقيقة المؤكدة التي لا تقبل جدلاً هي كسب المغاربة جولةً جديدةً بنقاطها الثمينة في مباراتهم الطويلة من أجل الديمقراطية، التي بدأت جولاتها المتتالية تقودهم إلى الانفلات من عقال السلطوية وبراثن الاستبداد، وكلهم أملٌ في تحقيق شعارهم "الإصلاح في ظل الاستقرار".
وذهب بهم الأمر إلى حد التبخيس الكلي لهذه الممارسة الاشتراعية، بمجرد أن جروحاً، بعضها غائر، لحقت المشهد العام، لثاني اقتراع تشريعي تشهده البلاد بعد ربيعٍ مغربيٍّ، قرّر أصحابه أن يضفوا عليه صبغةً خاصةً منذ انطلاقته في فبراير/ شباط 2011.
من المبالغة حقا أن ينشد هؤلاء الحالمون استواء العملية الديمقراطية في نسختها "المثالية"، على شاكلة أعرق الديمقراطيات في العالم، مثل بريطانيا، السويد، سويسرا...، في ثاني موعد انتخابي للمغرب، بعد إقراره دستوراً جديداً. كان النصيب الأكبر لمعركة تنزيله في الولاية الحكومية السابقة، والتأويل الديمقراطي لمقتضيات المتن الدستوري.
صحيح أن من تلك الممارسات ما يمسّ جوهر اللعبة الديمقراطية، لكنها تظل مقبولةً في إطار تمرين البلاد على الاحتكام لشرعية الصناديق، مرة كل خمس سنوات، من أجل مواصلة المسير نحو نادي الدول الديمقراطية، فربما تناسى هؤلاء أنه، وإلى الأمس القريب، كانت أصوات المواطنين تنقلب، عند إعلان النتائج، لتصير تعبيراً عن رغبة السلطة، لا عن إرادة المواطنين.
وصحيح كذلك أن هذه المزايدات غير مقبولة بتاتاً من هؤلاء، لأنهم أدرى، قبل غيرهم، بتلك السيناريوهات التي وضعت على جدول التنفيذ، وما كان يخطّط له في الكواليس. لولا الحكمة والتعقل اللذان سادا في آخر اللحظات، وعودة الإيمان بأن اللعب لا ينبغي أن يصل إلى نتائج الصندوق، لأن من بين معاني ذلك أن ثابت الاستقرار الذي أضحى محط إجماع المغاربة سوف يتم الخروج عنه، ويفتح البلاد على المجهول.
نجح الشعب المغربي في هذا الاختبار، وفرض على الدولة أن تحترم إرادته، وأضحى رقماً مهماً في المعادلة المؤطرة للمشهد السياسي المغربي. كما أبان عن مستوىً عالٍ من النضج، حين استوعب المرحلة بتفاصيلها الصعبة، وسياقاتها الداخلية والإقليمية وحتى الدولية. ما ولّد لديه مناعةً ضد أي طعم يقدم إليه من المخزن، أو الدولة العميقة، بغية تجييشه للمطالبة بالرجوع إلى حقبة ما قبل الربيع المغربي.
ما أكثر الصور التي تظهر أن واقعة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، على الرغم من كل ما رافقها من تحفظاتٍ لدى بعضهم، حقنة أخرى للديمقراطية، يتلقاها الشعب المغربي ضمن مسلسل تقوية مناعته ضد فيروس السلطوية.
أولا: انتظر بعضهم أن يأتي تصويب المغاربة في هذه الانتخابات وفق قاعدة "التصويت العقابي"، نظرا لسياسة التقشف وبعض القرارات اللاشعبية التي اتخذتها السلطة التنفيذية في فترة ولايتها. لكن العكس هو الذي حدث، إذ جاء التصويت سياسياً بامتياز؛ ما يعني أن درجة التسييس في أوساط المجتمع المغربي مرتفعة، نقيض ما يروج من عزوف عن الاهتمام بالشأن السياسي.
ثانيا: ترى الأصوات الرافضة اللعبة، بقواعدها كافة، أن نسبة المشاركة التي حدّدت في 43% دليل على فشل مسلسل الإصلاح، قياساً إلى النسب التي سجلت في الانتخابات البرلمانية السابقة (45%)، أو الانتخابات المحلية للسنة الماضية التي بلغت 53%. قول غير سليم ألبتة، فأصحابه ينسون، أو بالأحرى يتناسون، أمرين أساسيين: أحدهما، أن العرف جرى تاريخياً أن تكون نسب المشاركة في الانتخابات المحلية أكثر من نظيرتها في الانتخابات البرلمانية، لاعتبارات القرابة والقبلية... وما إلى ذلك من العوامل المتدخلة. والآخر، أن هذه النسبة سجلت من أصل 16 مليون مسجل في اللوائح الانتخابية برسم سنة 2016، بينما النسبة القديمة (45%) كان من أصل 12 مليون مسجل سنة 2011.
ثالثا: كان التصويت عقلانيا بالأساس، وبناءً على خطاب سياسي واضح، ولغة بسيطة "شعبوية"، ترمي إلى تحقيق الغاية التواصلية مع المواطن. وهو ما نجح أعضاء الحزب المتصدّر الانتخابات في تحقيقه نسبياً، قياساً إلى باقي الأحزاب؛ إذ لا أحد سوف يصدّق "خرافة" أن مليونا و800 ألف صوت التي حاز عليها حزب العدالة والتنمية كانت كلها من مغاربةٍ يتقاسمون معه الرؤية الدينية نفسها، والتراث الأيديولوجي نفسه. قطعاً لا، خصوصا عندما نعلم أن جزءاً من أصوات البورجوازية المغربية، وكذلك ثلة من شباب اليسار ذهب إلى حساب حزب المصباح، وهذه الفئات أبعد ما تكون عن مرجعية حزب العدالة والتنمية الدينية.
رابعاً: فرصة لتنزيل قاعدة ذهبية في أعرق البلدان الديمقراطية، تتعلق بربط المسؤولية بالمحاسبة، وذلك حين قرّرت الأمانة العامة لحزب المصباح ترشيح كتيبتها الوزارية كاملةً، مانحةً بذلك المواطنين الفرصة لتقييم أداء الوزراء في فترة انتدابهم، تاركين أمر الحسم بين يدي الشعب، ليجدّد الثقة في من يراه أهلا لها، وينزعها عمّن لا يستحقها.
خامسا: سيادة القرار الشعبي بفرض انقلاب جذري في المشهد السياسي رأسا على عقب، وتحوّل المواطن النكرة الذي كان على هامش اللعبة إلى عنصر جوهري في العملية بأكملها، فقد فرض المواطن البسيط نفسه على الأحزاب السياسية، وحتى على المؤسسة الملكية، التي ألزمت نفسها باختيار رئيس الحكومة مما تفرزه نتائج الصناديق. وبذلك، أضحت إرادة المواطن تدخل في اعتبارات هذه المؤسّسة، ليتحول على هذا الأساس إلى الرقم الأصعب في المعادلة السياسية.
قد يكون مستوى الشفافية المطلوب في هذا الموعد الانتخابي غير متحقق، وقد تكون أقل نزاهةً من سابقتها، كما يقول كثيرون، وقد تكون أحزابٌ قبلت بالمشاركة إيماناً منها بتوفر شروط الحد الأدنى فقط، لا القواعد المثالية للتنافس، وقد.. وقد إلى العشرة أو أكثر. لكن، تبقى الحقيقة المؤكدة التي لا تقبل جدلاً هي كسب المغاربة جولةً جديدةً بنقاطها الثمينة في مباراتهم الطويلة من أجل الديمقراطية، التي بدأت جولاتها المتتالية تقودهم إلى الانفلات من عقال السلطوية وبراثن الاستبداد، وكلهم أملٌ في تحقيق شعارهم "الإصلاح في ظل الاستقرار".
دلالات
محمد طيفوري
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
محمد طيفوري
مقالات أخرى
23 أكتوبر 2024
11 أكتوبر 2024
22 سبتمبر 2024