البطالة والفقر والقضايا المعيشية، كلمات السر الثلاث في العلاقة بين الجزائريين مع دولة الوفرة المالية والنفط، إذ إنه بعد انتكاسة ديموقراطية تشرين الأول/ أكتوبر وما لحق بها من عشرية سوداء، وصراعات الثورات العربية الحالية، لم تعد الحريات السياسية والشفافية، مطلب المكونات الشعبية في بلد استطاع التعايش مع منظومة الفساد مقابل ضمان التعايش الآمن. والقضايا المطلبية الملحة تضغط على برامج الأحزاب والسياسيين دونما منافسة حقيقية في الساحة لجبهة التحرير الوطني التي يتحكم رأسها بالمال والعطايا؛ والغموض الذي يبدو متعمداً بشأن قرار ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقه لولاية رابعة حتى اللحظة الأخيرة، يشي عن داخل أجنحة الحكم؛ بين خيار التمديد وعبور المرحلة الانتقالية أو نقل الجزائر إلى عهدة رئيس جديد يسميه بوتفليقه بنفسه.
ومع اقتراب موعد الانتخابات المقررة في 17 نيسان/ أبريل المقبل، لا توجد بدائل عن بوتفليقة، المقعد بسبب المرض، والذي ما أن يغادر باريس بعد الاستشفاء إلا ويعود إليها للطبابة. وبالنسبة إلى الجزائريين يظل اسم بوتفليقة مرتبطاً بالإنجازات الأهم طيلة العقد الماضي، فمع انجاز اتفاق الوئام والمصالحة والعفو الشامل في العام 1999، إلى تنمية الاقتصاد وتوفير المساكن الشعبية وزيادة الدخل ورفع احتياطي الدولة من العملات الأجنبية إلى أكثر من 200 مليار دولار، بدأت تعود للجزائر مكانتها الإقليمية. وما عزز ذلك أيضاً، التنسيق مع اميركا في منطقة الساحل والصحراء بما يعرف بـ"الحرب على الإرهاب"، إضافة إلى تنويع مصادر التسلح وتوثيق العلاقات مع روسيا والصين، والاحتفاظ بمسافة مهمة عن فرنسا والتشديد في كل مناسبة على قيم ثورة نوفمبر 1954. ولم يعف المرض بوتفليقه من أن يوجه حكومته بتسديد انتقادات إلى الرئيس الاشتراكي فرانسوا أولاند بعدما "تهكم" على الجزائريين ممازحاً بأن وزير داخلية حكومته عاد سالماً من هناك.
ورغم ذلك، فإن الجزائريين يرون أن رئيسهم العجوز يخفي وراءه شبكة واسعة من الفساد، تورط بها جنرالات متقاعدون وآخرون لا يزالون في الخدمة، ويقف خلف هذه المنظومة شقيقه الأصغر سعيد والأمين العام لجبهة التحرير الوطنية الذي قفز فوق قيادات الصف الأول من الجبهة، عمار سعداني.
ويقف سعداني خلف إعادة ترشيح بوتفليقه مجدداً للرئاسة، وهو الأمر الذي لم يحسم بعد بشكل رسمي، وصعد إلى الواجهة في الآونة الأخيرة، بعد اتهامه مدير المخابرات العامة الفريق محمد الأمين مدين الملقب بالجنرال توفيق بالفشل في أداء واجباته، مشيراً إلى أن التغييرات التي أجراها بوتفليقه في أيلول/ سبتمبر الماضي في المؤسسة العسكرية ونقل صلاحيات بعض الأجهزة الأمنية إلى جهات أكثر مركزية، جاءت بعد ما اعتبره فبركة اتهامات نهب المال العام المتهم بها وزير النفط السابق شكيب خليل. التغييرات في مناصب بعض جنرالات الجيش بعدما قام بعض النافذين بالمؤسسة العسكرية والمخابرات بإقالة شقيق بوتفليقه من منصبه كمستشار للرئيس. ويدور الحديث هنا عن نية في التوريث تقف ضدها مؤسسة المخابرات.
وتكشفت هذه الأزمة عن خلافات قوية بين المراكز النافذة في مؤسسة الحكم، فأنصار التمديد لبوتفليقه يرون ذلك من زاوية الحفاظ على مراكز نفوذهم في الجيش والدولة وإبقاء سيطرتهم على شبكة العلاقات الاقتصادية الواسعة في الجزائر وعمادها تجارتا النفط والغاز، وربما التمهيد لنقل السلطة إلى شقيقه سعيد، أما مؤسسة المخابرات المتحكمة بمقاليد الحكم منذ نهاية القرن الماضي، فترى أن مرحلة بوتفليقه قد انتهت وأنه غير قادر لأسباب صحية على الحكم، ولا بد من البحث عن بديل عنه، وهو ما تخشاه الدائرة الضيقة المحيطة بالرئيس بأن يطيحها ويكشف عن حجم الأموال المنهوبة التي بحوزتها.
وغياب البدائل ذاته هو الذي دفع بصنّاع القرار إلى تأجيل الأزمة وترك الباب موارباً للتمديد، أما بالنسبة للمعارضة فغالبيتها آثرت الانسحاب من السباق الرئاسي، حيث أعلنت سبعة أحزاب مقاطعتها الانتخاب، في مقدمتها "حركة النهضة الإسلامية" وحركة "مجتمع السلم" شريكتها في "تكتل الجزائر الخضراء"، وكذلك حركة الإصلاح. أما جبهة الانقاذ الجزائرية المحظورة فوجدت في الخلافات العميقة بين أجنحة الحكم في الجزائر مدعاة أهم لدعوة القوى السياسية وأحزاب المعارضة إلى أن تتحمل مسؤوليتها نتيجة الفراغ الحاصل في موقع الرئاسة نتيجة الغياب الدائم لبوتفليقة بسبب المرض.
وعلى ساحة المترشحين حالياً إلى جانب رئيس الوزراء الأسبق علي بن فليس، رئيس الوزراء الاسبق أحمد بن بيتور إلى جانب المرشح المتقاعد من المؤسسة العسكرية محمد الطاهر يعلى، وتبقى زعيمة حزب العمال لويزة حنون الأقل حظاً إلى جانب عدد من المستقلين.
ولم تنته بعد بورصة الترشيحات، إلا أن التقديرات مفتوحة على عدة خيارات، وسط أسماء مكملة للمشهد الديموقراطي الشكلي، والاحتمال الاضعف أن تقرر مؤسسات المخابرات دعم علي بن فليس، ما يعني تغييراً للمشهد السياسي كلية في الجزائر والاطاحة بقوى نافذة في الحكم والاقتصاد، بل وانقلاباً جبهة التحرير الوطني التي خاضت معركة قبل عامين لإطاحة الحرس القديم وممثلهم عبد العزيز بلخادم. هذا الخيار يواجه صعوبة أيضاً بسبب أن المزاج الشعبي العام لا يقف وراء بن فليس بعدما اعترف بفساد ينخر جسد الحكومة التي ترأسها قبل أن يستقيل في العام 2003. ومن ثم دفعه الثمن بالسقوط أمام غريمه الرئيس الحالي في انتخابات 2004، وهذا ما صوّره كشخص ضعيف رغم أنه شق أمانة جبهة التحرير الوطنية. لكن الجبهة ظلت عصية عن الانكسار حينها مع إبرامها الاتفاق الثلاثي مع أحمد أويحي والإسلامي أبو جرة سلطاني.
الاحتمال الثاني الأقوى هو أن تتفق مؤسسة المخابرات وجنرالات الجيش مع مؤسسة الرئاسة على تمديد مؤقت للرئيس بوتفليقه المرشح الأوفر حظاً بطبيعة الحال، أو ان يرشح بوتفليقه بنفسه خليفة له قبل اللحظات الأخيرة، بحيث يكون توافق عليه من قبل الجيش والمخابرات وجبهة التحرير الوطنية.