امرأة لا تُنجِب

19 أكتوبر 2014
أطفال يلعبون في المخيّلة (Getty)
+ الخط -
قال لها الطبيب: "لا تستطيعين الإنجاب". لم يتلعثم. لم يرتبك. أخبرها ببرود تام ومن دوم مقدّمات.
فهل يعي الطبيب ما يقول؟ هل يعي الفارق بين العقم والإنفلونزا مثلاً؟
نظرت إليه كالبلهاء. لم تسأله عن الأسباب. لا تهمّ الأسباب. لم تسأل عن العلاج أيضاً. لم يخطر ببالها أنّ حالتها يوجد لها علاج أصلاً. هذه الأمور تحدث أو لا تحدث أبداً. فكّرت في أنّها تكره الطبيب. تكره نظّارته، قميصه الأبيض ونظراته الباردة. لم تعد تفكر في نفسها. تفكر فقط في الطبيب الواقف أمامها. تسأل نفسها: هل يتألّم هذا الرجل؟ هل يبكي؟ هل يضحك؟ هل يكره ويحبّ؟ والسؤال الأهمّ: هل لديه أطفال؟! هل لديه زوجة تنتظره كلّ يوم؟ هل أحبّها قبل أن يتزوّجا؟ هل اتّفقا قبل الزواج بسنوات على عدد الأطفال وأسمائهم؟ هل قضيا الساعات يرسمون ملامحهم؟ وتصرّ هي على أن يكونوا شبهه؟ ويصرّ هو أن يكونوا شبهها هي؟ هل اتّفقا على أن تسمّي هي البنات ويسمّي هو الصبيان؟ هل فكّرا في حجّة حتّى لا يضطرّا إلى تسمية الطفل الأكبر على اسم والده الذي أصبح "مش على الموضة"؟ هل تشاجرا على اسم المدرسة التي سيدخلان الأطفال إليها مثلاً؟

أسئلة كثيرة تبادرت إلى ذهنها في لحظة واحدة. فكّرت مجدّداً في أنّ الطبيب وحياته لا يعنيانها بشيء. كرّرت لنفسها أنّها تكرهه. كيف يمكن ألاّ تكره رجلاً يخبرها أنّها ستموت، بل أسوأ من ذلك. يخبرها أنّها ستعيش وحيدة. يخبرها أنّها ستقضي حياتها تلاعب أولاد شقيقتها أو حتّى أولاد الجيران. لن تلاعب طفلها أبداً. يخبرها أنّها ستبقى امرأة ناقصة... امرأة "بور".
ثم تذكّرت زوجها. انتبهت كم ظلمته في الدقائق القليلة الماضية. لم تشعر يوماً بالوحدة معه، فما الذي تغيّر الآن؟ اعتقدت لسنوات طويلة أنّها لا تريد من الدنيا سواه. مجرّد التفكير فيه يشعرها بالدفء والأمان. فلِمَ تشعر الآن بالبرد ينخر عظامها فجأة؟
تغيّرت صورته في خيالها أيضاً. باتت كلّما فكرت فيه تأتيها صورتهما يوم الزفاف. كلّما تأمّلت في الصورة تجد جسدها ناقصاً. لا ترى شعرها. لا ترى يدها. لا ترى صدرها. أما هو فكان يبدو في خيالها كاملاً. كاملاً إلى درجة الاستفزاز. تنظر إلى الصورة فتتخيّله ينظر بقرف إلى شعرها الذي لا تراه أو ينظر إلى يدها أو إلى صدرها. أحسّت فجأة أنّها تكرهه. تكره حنانه. تكره أنّه يحبّها. تكره أنّه يعطيها كلّ شيء. ماذا ستعطيه هي؟
حين وصلت إلى هذا السؤال شعرت بالخوف... فأجبرت نفسها على التوقّف عن التفكير.

لم تذهب إلى البيت فوراً. مشت في شوارع المدينة. تُذكّرها المدينة بطفلها الذي لن يأتي. تمرّ إلى جانب محلات الملابس الولاّدية. لا تعرف إن كانت تفضّل الثياب الزهرية أم الزرقاء. ثياب الأولاد أو البنات. لكن لا يهم. لا معنى لتفكيرها بثياب الأطفال بعد الآن. قالت بينها وبين نفسها: "لو إنّه يأتي..لو إنّه يأتي فقط". لكانت ستشتري ثياباً كثيرة ومن الألوان كافة. ستترك وظيفتها وتتفرّغ للعناية به/بها. تريد أن يكون له/لها عيناها وغمّازتا والده. لن تتأفّف من بكائه. لن تشتكي من قلّة النوم. ستسهر حتّى الصباح، وتتأمّل كيف يشبك يده الصغيرة بإصبعها. سيبكي فتبكي معه هي أيضاً. سيضحك فتشعر أنّ الدنيا صغيرة جداً وجميلة جداً. فقط لو يأتي!
عادت تفكر في زوجها. تعرف أنّه يحبّها. يحبّها كثيراً، ولكن كيف ستقول له إنّها لا تحبّه. لن تقولها صراحة. هي لا تعنيها أصلا. ستقول فقط إنّها لا تنجب الأطفال، إنّها عاجزة عن إنجاب الأطفال، وسيقول هو إنّها لا تحبّه.
لا تذكر متى وصلت إلى المنزل، لكنّها شعرت بالخوف، ربما للمرّة الأولى، وهي تغلق الباب. دخلت إلى الغرفة التي يفترض أن تُخصّص للأطفال. ضحكت. كان من المفترض أن يكونوا "أطفالاً". تتمنّى الآن ولو أنّها ستجد طفلاً واحداً في الغرفة. لم تفرش الغرفة بعد. بقيت الغرفة خالية لسنوات، ويبدو أنّها ستبقى خالية الى الأبد.
نامت على بلاط الغرفة. استيقظت بعد ساعة، وانتظرت قدوم زوجها. لا تعرف ماذا حصل في المنام، ولكن عندما عاد زوجها قالت بحسم: "أنا حامل".

يعرف زوجها أنّها منذ خمس سنوات تذهب إلى الطبيب، ويكرّر لها الطبيب الكلام نفسه. لم يسألها هذه المرة ماذا قال الطبيب. لها. فهو ملّ من زيارة الأطباء، لكنّ زوجته لا تملّ. وعندما أخبرته أنّها حامل، لم ينطق. أراد مجاراتها، فسألها إن أجرت فحصاً منزلياً للحمل. ردّت بعصبية أنّ الأم لا تحتاج إلى فحوصات. يكفي أن تشعر بطفلها في داخلها. قالت إنّها تريد أن تموت لكنّها تخاف أن يموت الطفل. أضافت أنّها لا تعرف كم ستدوم مدّة الحمل. ربما سنوات. على الأرجح حتّى موتها.
لم ينطق. أيقن ذلك المساء أنّه فقدها حقاً.
لم تعد تغادر المنزل بعد تلك الليلة. تخبر الجميع أنّها مشغولة بالطفل الجديد. حكمت على نفسها بالعزلة. تمضي النهار تحدّث طفلها المتخَيّل، وتغنّي له. فرشت الغرفة الخالية، ولا تنام إلّا فيها. يستيقظ زوجها في الليل على صوت بكائها. تخبره أنّها تبكي لأنّ طفلها يبكي. يبكي هو أيضاً. لم يخبرها بعد سنوات أنّه تزوّج ورُزِق بطفلين. ولم تلاحظ هي، بسبب انشغالها بالطفل. بقيت سبع سنوات على هذه الحال. تصرف مالاً كثيراً على ثياب الأطفال وطعامهم وألعابهم. لم يمنعها زوجها من فعل ذلك يوماً. تركها تعيش في خيالها. كانت تبدو أسعد مع طفلها المتَخَيَّل في السنوات الأخيرة. ربما لم تعد تشعر أنّها ناقصة.
نادته في أحد الأيام. قالت إنّها ستموت. قالتها ببرودة الطبيب إيّاه. لم يقل لها زوجها: "سلامة قلبك". ربما شعر أنّه حان الوقت حقّاً لتموت. أراد لها أن ترتاح. لم تَقُل جملة زيادة. لم تذكر حتّى أنّها تحبّه. أوصته بطفلها فقط. أخذت منه وعداً.
وماتت.
لا يزال هو حيّاً يرزق. كلما اجتمع بأولاده وأحفاده يحدّثهم عن طفله الأوّل الذي توفي صغيراً. يخبرهم عن الخيال الذي مات.
المساهمون