امتحان تركي للمعارضة السورية
منذ اجتماع جدة الذي تناول محاربة تنظيم داعش، طفا على السطح خلاف عميق بين الولايات المتحدة التي تقود قوى التحالف الغربي والعربي وتركيا، وعلى الرغم من تأخر الأخيرة في إعلان طبيعة الخلاف بشكل واضح وبيّن، فإن التلميحات كلها أشارت إلى أنها لا يمكن أن تُميّز بين الإرهاب ومسببه، وأن حل القضية لا يمكن أن يكون بالترقيع، بل يجب أن يكون بإزالة المشكلة من جذورها، وطبعاً، فإن جذر المشكلة بالنسبة إلى الجانب التركي هو النظام السوري.
منذ ذلك الاجتماع، حتى تصويت مجلس الأمة التركي الكبير (البرلمان) على مذكرة السماح لقوات التحالف باستخدام الأراضي التركية، وأجوائها، وتنفيذ القوات المسلحة التركية عمليات خارج الحدود، والأمور تسير نحو الوضوح أكثر، ولعل خطاب الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في المنتدى الاقتصادي، وضع النقاط على الحروف. هاجم الولايات المتحدة بشدة، وانتقد مواقفها في المنطقة عموماً، وموقفها من الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، والنظام السوري خصوصاً. فاعتبر أن تشجيعها الانقلابات العسكرية سيزيد أزمات المنطقة، وأن قصف داعش لن يؤدي إلى نتيجة. وقال إن الأميركان أنفسهم يعترفون بعدم جدوى القصف الجوي، وعدم إمكانيته إنهاء الإرهاب. فما الحل إذن؟ الحل هو "استراتيجية شاملة، تقضي على إرهاب داعش والنظام معاً، تتضمن منطقة آمنة وتدريب وتأهيل (أو تجهيز)، ولا يمكن تطبيق أحد هذه العناصر الثلاثة من دون العنصرين الآخرين" وأضاف: "بدأت قوى التحالف تميل للأخذ برأينا"...
كانت ردود الولايات المتحدة على تصريحات المسؤولين الأتراك غائمة تماماً، تتأرجح بين "ليس ثمة شيء كهذا حالياً" و"الأمر مطروح للنقاش"...
ويعني ميل قوى التحالف للأخذ بالخطة التركية قبولها تنفيذ منطقة آمنة على طول الحدود. والقرار الذي وافق عليه البرلمان بتفويض الحكومة للقيام بهذا الأمر لم يقرر بأصوات حزب العدالة والتنمية فحسب، بل أضيفت إليها أصوات نواب حزب الحركة القومية، أيضاً، ولم يرفضه سوى النواب الأكراد! ونواب حزب الشعب الجمهوري الذين يمارسون سياسة معاكسة لحزب العدالة والتنمية، مهما كانت الظروف، ولكن أنصار الحزب الكردي بعد أحداث كوباني/ عين العرب، تظاهروا مطالبين حكومتهم بالتدخل، بعد أن رفضوا المذكرة. ومن جهة أخرى، عاد رئيس حزب الشعب الجمهوري، وقال: "إذا أدرج في المذكرة أن الهدف محاربة داعش، وأعيد التصويت، سنوافق على المذكرة". وفي النتيجة، نال القرار دعماً قوياً نادراً ما ناله أي قرار آخر.
المؤشرات كافة، من الحشد العسكري التركي جنوباً إلى انخفاض قيمة الليرة التركية، ووصولها إلى أرقام قياسية، تدل على الحرب، وقرب تأسيس منطقة آمنة. متى؟ هذا غير معروف بعد، ولكن وزير الدفاع التركي، عصمت يلماظ، بعد قبول المذكرة مباشرة، قال للصحافيين: "لا تتوقعوا خطوة فورية"، ولعل كلام الوزير التركي يعني أن الأمور ستسير بتمكن، ولن يكون هناك عشوائية في العمل. من جهة أخرى، اتصل وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف، بنظيره التركي، مولود جاووش أوغلو، قبيل طرح المذكرة على التصويت، وعبر له عن قلقه مما آلت إليه الأمور، وتمنى ألا تؤدي التطورات إلى مزيد من عدم الاستقرار. والطريف أن وسائل الإعلام التركية نقلت الخبر عن وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية، فهل هذا مؤشر على تسليم إيران بالأمر الواقع، واعتبار الخرق الجديد لما تسميه السيادة ينطبق عليه المثل: "لن يعيب المصفاة ثقب جديد"؟ وطبعاً لكيلا تترك إيران الأمور، بدأت عبر كتاب الصحف بشن حملة شعواء على تركيا.
وتقول هذه المؤشرات إن المنطقة الآمنة باتت واقعاً قادماً، ولعل حصار داعش قبر سليمان شاه، وهجومها على كوباني/ عين العرب، واستفزازاتها الجانب التركي، كلها محاولات لاستدعاء التدخل التركي. فإذا كانت المنطقة الآمنة أمراً واقعاً، وبات الجميع يتعامل معه على هذا الأساس، فمن سيدير المنطقة الآمنة؟ بما أن هناك تدريباً وتأهيلاً بالتوازي مع فرض المنطقة الآمنة، فمن الواضح أن هذه المنطقة ستكون تحت إدارة المعارضة. منذ البداية، كانت هناك مناطق سورية اصطلح على تسميتها "محررة"، لكنها "ليست آمنة"، فطالما أن الطيران والصواريخ البعيدة والمتوسطة المدى تصل إليها، يمكن للنظام تخريب أي محاولة لإعادة الإعمار، أو تأسيس بنى ديمقراطية. وهذه كانت ذريعة المعارضة السورية بعدم استطاعتها القيام بشيء في الواقع، لعدم وجود الأمان، ولكن، الآن، هل هناك استعداد لإدارتها؟
هل المعارضة السورية مستعدة لتقديم نموذج من الإدارة، يثبت للعالم أنه أفضل من نموذج النظام، يشجع العالم على دعمها، بعد التخبط المتزايد الذي لم يبدأ بدعم النصرة، ولم ينته بسوء الإدارة؟ إنه الامتحان الأصعب الذي ستخوضه المعارضة، ومن المرجح أن يكون نهاية الجولات، فإذا لم تنجح هذه المعارضة بإدارة المنطقة الواسعة المحررة، والتي تغطي نحو نصف سورية، وستصبح آمنة في فترة زمنية ليست طويلة، لا بد أن النتائج ستكون كارثية. وهنا، لا بد من القول إن النظام السوري، وحلفاءه، وإن بدوا غير مبالين كثيراً لما يجري، ولكن المحاولات التي ستعمل على إفشال هذه الإدارة لن تكون بسيطة، وينبغي توقع ما لا يمكن أن يخطر على بال.