28 مايو 2017
اليوم التالي لـ"جاستا"
لا تزال الآثار البعيدة والأساسية لقانون جاستا (العدالة ضد رعاة الإرهاب) غامضةً وغير محسومة، ومطروحة للتداول مجدّداً داخل الولايات المتحدة. لكنْ، ثمّة آثار ثانوية غير مقصودة، برزت فوراً خلال (وبعد) إقرار القانون الذي مثّل خضّة غير متوقعة لسعوديين كثيرين، كُتاباً ومراقبين، خصوصاً إذا تمّ وضعه في سياق مؤتمر غروزني وسلسلة الأوضاع الإقليمية في سورية والعراق واليمن. من الآثار غير المقصودة لخضّة "جاستا" أنه أثار ارتباكاً خطابياً فورياً حول مفاهيم "يُفترض" أنها اكتسبت قدراً من الوضوح والثبات في تداولها الصحافيّ اليوميّ، مثل مفهوم الإرهاب.
خلال خمسة عشر عاماً (منذ أحداث "11 سبتمبر")، تحول "الإرهاب" إلى ثيمةٍ ثابتةٍ في الصحافة السعودية، وملف تقليدي من ملفاتها. نشرت الصحافة لكُتّاب الرأي عدداً هائلاً من المقالات لا يمكن إحصاؤه، فضلاً عن مسحه، في تفكيك ذهنية الإرهاب وأبعاده وجذوره وأهدافه. هذا موقف إعلاميّ جيّد وضروريّ في مواجهة ظواهر، مثل القاعدة و"داعش". لكن، عبر هذه السنوات، تشكّل خطاب صحافيّ حول الإرهاب، ينبني على مجموعة كليشيهات تحليلية ومفاهيمية، تصلّبت إلى حدٍ كبير، إلى درجةٍ صار من الممكن التنبؤ سلفاً بمحتوى 90% من المقالات التي ستُنشر بعد كل عمليةٍ أو حدثٍ يتعلق ب "داعش"، ولم تعد هذه الكليشيهات المتصلّبة (سواء في التقارير الصحافية أو مقالات الرأي) قادرةً على تجديد أسئلتها، أو اقتراح أي إجاباتٍ مقنعة للتطوّرات المختلفة في ملف الإرهاب، ولا مُستجيبة للتطور التنظيري أو الدراسات الجديدة في الموضوع، ولا مُتفاعلة مع المقاربات الناقدة لها (لهذه الكليشيهات)، إلا من قبيل الرفض والسخرية ربما. لذلك، أنتجت الخضّة التي قام بها "جاستا" لهذا الخطاب الصحافي الرتيب والتقليدي حالةً مثيرةً للغاية من الارتباك واختلاط الأوراق، وإعادة ترتيبها على عجلٍ لإنتاج خطابٍ جديدٍ، يليق بما لم يكن في الحسبان، باليوم التالي لـ"جاستا". هذا التغيير السريع، وربما الأهوج، تحت وطأة الظرف السياسي، أحدث حالةً من التناقض والاضطراب، ليست عامة وحسب، بل يمكن ملاحظتها حتى على المستوى الفردي للكاتب، وتحديداً: للكاتب الذي تخصّص، خلال العقد الماضي، في الكتابة بإفراطٍ عن "الإرهاب"، ثم أصبح مأزقهُ كبيراً بعد "جاستا".
بين يومٍ وليلة، وجد هؤلاء الكتّاب أنفسهم في حاجةٍ إلى الانتقال من الاعتراف بالإرهاب واقعاً وتفكيك بناه إلى دفع "تُهمة" الإرهاب. وهذا أيضاً غرضٌ مشروع، لكن المعضلة كانت في إنجاز هذا الانتقال بين الغرضين، بلا تناقضٍ داخلي في مواقف الكاتب الواحد. اهتزّ موقف عدد من الكُتّاب، وهم يتساءلون، أول مرة منذ وقت طويل، بشأن السياق الذي ينتمي إليه الإرهاب: فكريّ أم سياسيّ؟ بعد "جاستا" مباشرةً، كتب أحد الكُتّاب مقالاً غاضباً بنبرةٍ جديدةٍ كلية، مُشيراً إلى مسؤولية أميركا عن نشأة الإرهاب في منطقتنا تاريخياً، منذ دشّنت مرحلة الجهاد الأفغاني. وكان هذا الكاتب قد كتب، قبل أسابيع قليلة (كما كتب كثيراً جداً قبلها) أن "داعش" لم تنزل علينا من المريخ، بل هي نتاجٌ طبيعي للتراث ومقولات الفقهاء وكتب السلف ونمط التعليم المدرسي في السعودية. كما اهتزّت مواقف الكُتّاب في تحديد مفهوم الإرهاب، بوصفه من أعمال الجماعات والمنظمات ضد الدولة، أم هو إرهاب الدولة ضد المدنيين؟
بعد "جاستا"، سرت في الصحف السعودية نفحةُ يساريةُ غير معهودة، ثائرة على إرهاب الدولة
الأميركية وغزو العراق وطائرات الدرونز، وتلبّست بعضهم حالةً تشومسكية استعادت جرائم أميركا في إبادة الهنود الحمر وقنبلة هيروشيما وحرب ﭬـيتنام. أخذ أحدهم الموضوع إلى أقصى حدوده، عندما تساءل بعد "جاستا" بيومين: ما هو مفهوم الإرهاب أصلاً؟ على الرغم من أنه واظب، في الأعوام الماضية، على كتابة ما لا يقلّ عن مقالين شهرياً حول الإرهاب. وارتبك الكُتّاب وهم يواجهون سؤال: هل تمثل حادثة 11/9 المجتمع السعودي أم لا؟ أحد الكُتاب الذي كتب باستمرار سابقاً عن ضرورة اجتثاث الجذور الفكرية، ومحاصرة المتعاطفين مع الإرهاب في مجتمعنا، كتب بعد "جاستا" عن انعدام العدالة في ملاحقة السعودية بذنب مجموعةٍ من " المجانين والمختلين عقلياً". كاتب آخر كتب بعد "جاستا" إن 9/11 فعلٌ فرديّ لا يتولد من جماعةٍ بعينها، بل قامت به مجموعةٌ يمكن أن يظهر أمثالها في أي مجتمعٍ أو دولة. تخصص هذا الكاتب قبل "جاستا" في نقد الخطاب الديني المسؤول عن ظاهرة الإرهاب والجذور الثقافية لـ "داعش". وظهر كاتبٌ على إحدى القنوات، ليقول بابتسامةٍ بريئةٍ إن الإرهاب قد يظهر في أي مجتمع وأي ثقافة، وكان قبل "جاستا" قد تخصّص في نقد ثقافة المجتمع السعودي التي أنتجت الإرهاب. وارتبك الكُتاب في الإجابة على سؤال: هل الخطأ في واقع المجتمع السعودي، أم في تصوّر الإعلام والمواطن الأميركي عن السعودية؟ بعد "جاستا" أشار عددٌ منهم إلى "الصورة النمطية الظالمة" التي تشيع في الإعلام الأميركي والدوائر السياسية العليا عن السعودية، وعن عاداتنا وديننا. قبل "جاستا" كان الجواب بلا تردّد: ثمّة خطأ في واقع المجتمع السعودي ومفاهيمه الدينية ونمطه المعيشي وخطاب الكراهية والتحريض الذي يخترق المجتمع.
ليس خطأ على الإطلاق أن يُشير كاتبٌ إلى جرائم أميركا. وليس خطأ على الإطلاق أن ينقد كاتب الجذور الثقافية للإرهاب في المجتمع والخطاب الديني. كلاهما مقبول وصحيحٌ ضمن حيّز معيّن. لكنْ، هناك خلل في أن تختلّ وتتغير إجابات الكاتب على الأسئلة نفسها، بينما ينتقل بين الموضوعين، أو بينما ينتقل في مقاربته الإرهاب بين "ما قبل جاستا"، وما بعده، والخلل كبيرٌ للغاية، لأن موضوع الإرهاب غير طارئ وليس مفاجئاً، ولا يوجد موضوع آخر خاض فيه مجتمع الكُتّاب في السعودية أكثر من هذا الموضوع، وما من موضوعٍ تشكّل حوله خطابٌ ثابتٌ بكليشيهات ثابتة أكثر منه. كيف ضُربت بعض أهم أسس هذا الخطاب الذي يزعم أنه نقدّي وتفكيكي وتنويري، ويُشخص مشكلة الإرهاب ويقدّم العلاج، لمجرّد أن قانوناً في دولةٍ أخرى تمّ إقراره؟ تبدو الكتابات حول الإرهاب، في هذه الحال، مجرّد ثرثرة وملء فراغٍ صحافيّ، لا يحملها كاتبها نفسه محمل الجدّ، ولا تمثل فرضياته التي يبني عليها مقالاته في هذا الموضوع سوى اختيار عشوائي هو (الكاتب) أول المستعدّين للتخلي عنها ونسفها، عند أول منعطف سياسيّ غير تقليدي يواجهه. ليس اضطراب خطاب الإرهاب بعد "جاستا" إلا نموذجاً للخلل العميق في المقاربات الفكرية التي تقوم بها "النخب الصحافية" لأهم القضايا وأعقدها في واقعنا. مقارباتٌ كثيفة كمياً (لا نوعياً)، تملأ الدنيا ضجيجاً، لكنه فقيرٌ في المعنى، وقطعياتٍ وكليشيهات متصلبة، يجتهد الكاتب في الإلحاح عليها لإقناع القارئ، لينبذها الكاتب نفسه مع أول "جاستا".
@Emanmag
خلال خمسة عشر عاماً (منذ أحداث "11 سبتمبر")، تحول "الإرهاب" إلى ثيمةٍ ثابتةٍ في الصحافة السعودية، وملف تقليدي من ملفاتها. نشرت الصحافة لكُتّاب الرأي عدداً هائلاً من المقالات لا يمكن إحصاؤه، فضلاً عن مسحه، في تفكيك ذهنية الإرهاب وأبعاده وجذوره وأهدافه. هذا موقف إعلاميّ جيّد وضروريّ في مواجهة ظواهر، مثل القاعدة و"داعش". لكن، عبر هذه السنوات، تشكّل خطاب صحافيّ حول الإرهاب، ينبني على مجموعة كليشيهات تحليلية ومفاهيمية، تصلّبت إلى حدٍ كبير، إلى درجةٍ صار من الممكن التنبؤ سلفاً بمحتوى 90% من المقالات التي ستُنشر بعد كل عمليةٍ أو حدثٍ يتعلق ب "داعش"، ولم تعد هذه الكليشيهات المتصلّبة (سواء في التقارير الصحافية أو مقالات الرأي) قادرةً على تجديد أسئلتها، أو اقتراح أي إجاباتٍ مقنعة للتطوّرات المختلفة في ملف الإرهاب، ولا مُستجيبة للتطور التنظيري أو الدراسات الجديدة في الموضوع، ولا مُتفاعلة مع المقاربات الناقدة لها (لهذه الكليشيهات)، إلا من قبيل الرفض والسخرية ربما. لذلك، أنتجت الخضّة التي قام بها "جاستا" لهذا الخطاب الصحافي الرتيب والتقليدي حالةً مثيرةً للغاية من الارتباك واختلاط الأوراق، وإعادة ترتيبها على عجلٍ لإنتاج خطابٍ جديدٍ، يليق بما لم يكن في الحسبان، باليوم التالي لـ"جاستا". هذا التغيير السريع، وربما الأهوج، تحت وطأة الظرف السياسي، أحدث حالةً من التناقض والاضطراب، ليست عامة وحسب، بل يمكن ملاحظتها حتى على المستوى الفردي للكاتب، وتحديداً: للكاتب الذي تخصّص، خلال العقد الماضي، في الكتابة بإفراطٍ عن "الإرهاب"، ثم أصبح مأزقهُ كبيراً بعد "جاستا".
بين يومٍ وليلة، وجد هؤلاء الكتّاب أنفسهم في حاجةٍ إلى الانتقال من الاعتراف بالإرهاب واقعاً وتفكيك بناه إلى دفع "تُهمة" الإرهاب. وهذا أيضاً غرضٌ مشروع، لكن المعضلة كانت في إنجاز هذا الانتقال بين الغرضين، بلا تناقضٍ داخلي في مواقف الكاتب الواحد. اهتزّ موقف عدد من الكُتّاب، وهم يتساءلون، أول مرة منذ وقت طويل، بشأن السياق الذي ينتمي إليه الإرهاب: فكريّ أم سياسيّ؟ بعد "جاستا" مباشرةً، كتب أحد الكُتّاب مقالاً غاضباً بنبرةٍ جديدةٍ كلية، مُشيراً إلى مسؤولية أميركا عن نشأة الإرهاب في منطقتنا تاريخياً، منذ دشّنت مرحلة الجهاد الأفغاني. وكان هذا الكاتب قد كتب، قبل أسابيع قليلة (كما كتب كثيراً جداً قبلها) أن "داعش" لم تنزل علينا من المريخ، بل هي نتاجٌ طبيعي للتراث ومقولات الفقهاء وكتب السلف ونمط التعليم المدرسي في السعودية. كما اهتزّت مواقف الكُتّاب في تحديد مفهوم الإرهاب، بوصفه من أعمال الجماعات والمنظمات ضد الدولة، أم هو إرهاب الدولة ضد المدنيين؟
بعد "جاستا"، سرت في الصحف السعودية نفحةُ يساريةُ غير معهودة، ثائرة على إرهاب الدولة
ليس خطأ على الإطلاق أن يُشير كاتبٌ إلى جرائم أميركا. وليس خطأ على الإطلاق أن ينقد كاتب الجذور الثقافية للإرهاب في المجتمع والخطاب الديني. كلاهما مقبول وصحيحٌ ضمن حيّز معيّن. لكنْ، هناك خلل في أن تختلّ وتتغير إجابات الكاتب على الأسئلة نفسها، بينما ينتقل بين الموضوعين، أو بينما ينتقل في مقاربته الإرهاب بين "ما قبل جاستا"، وما بعده، والخلل كبيرٌ للغاية، لأن موضوع الإرهاب غير طارئ وليس مفاجئاً، ولا يوجد موضوع آخر خاض فيه مجتمع الكُتّاب في السعودية أكثر من هذا الموضوع، وما من موضوعٍ تشكّل حوله خطابٌ ثابتٌ بكليشيهات ثابتة أكثر منه. كيف ضُربت بعض أهم أسس هذا الخطاب الذي يزعم أنه نقدّي وتفكيكي وتنويري، ويُشخص مشكلة الإرهاب ويقدّم العلاج، لمجرّد أن قانوناً في دولةٍ أخرى تمّ إقراره؟ تبدو الكتابات حول الإرهاب، في هذه الحال، مجرّد ثرثرة وملء فراغٍ صحافيّ، لا يحملها كاتبها نفسه محمل الجدّ، ولا تمثل فرضياته التي يبني عليها مقالاته في هذا الموضوع سوى اختيار عشوائي هو (الكاتب) أول المستعدّين للتخلي عنها ونسفها، عند أول منعطف سياسيّ غير تقليدي يواجهه. ليس اضطراب خطاب الإرهاب بعد "جاستا" إلا نموذجاً للخلل العميق في المقاربات الفكرية التي تقوم بها "النخب الصحافية" لأهم القضايا وأعقدها في واقعنا. مقارباتٌ كثيفة كمياً (لا نوعياً)، تملأ الدنيا ضجيجاً، لكنه فقيرٌ في المعنى، وقطعياتٍ وكليشيهات متصلبة، يجتهد الكاتب في الإلحاح عليها لإقناع القارئ، لينبذها الكاتب نفسه مع أول "جاستا".
@Emanmag