لا غرو أن المشهد السياسي الألماني شكل في العقود الأخيرة، مقارنة بمحيط ألمانيا الأوروبي، حالة استثنائية بامتياز. فبينما انتشرت في النمسا وهولندا وبلجيكا والدنمارك أحزاب يمينية متطرفة تعارض واقع مجتمعات الهجرة وتعادي الأقليات، بدت الخارطة الحزبية الألمانية وكأنها تملك مناعة عضوية ضد آفة الشعبوية السياسية.
وفي الواقع ساهم غياب أحزاب شعبوية تقدم شعارات وأطروحات تبسيطية لقضايا وإشكاليات معقدة عن الخارطة الحزبية منذ تأسيس جمهورية ألمانيا الاتحادية عام 1949، في تمتع النظام السياسي باستقرار فريد من نوعه. فالحزبان السياسيان الفاعلان وهما الحزب المسيحي الديمقراطي، والحزب الاشتراكي الديمقراطي، استوعبا دروس الماضي الدامي وإفشال النازيين لجمهورية فايمر الديمقراطية عام 1933، وتبنيا صيغةً توافقية لتقاسم الحكم، ما ساهم في تكريس ثقافة سياسية وسطية قائمة على تحمل المسؤولية الأخلاقية لأهوال الحقبة النازية وما شهدته من بربرية مروعة.
اقــرأ أيضاً
لكن صعود اليمين الشعبوي الألماني، الذي يمثل "حزب البديل من أجل ألمانيا" حالياً ذراعه السياسية، ينذر بنهاية الاستثناء الألماني، إذ نجح هذا الحزب الجديد في توظيف حالة القلق العام من تداعيات استقبال أكثر من مليون لاجئ على المجتمع الألماني في العالم الماضي، وتصوير النخبة السياسية الحاكمة وكأنها عاجزة عن إدارة الدولة.
ومن المهم في هذا السياق الإشارة إلى أن الدستور الألماني يعطي أهمية محورية للأحزاب السياسية في النظام السياسي، كونها "تنقل إرادة الشعب إلى آليات صناعة القرار السياسي"، ولكنه يلزمها في الوقت نفسه بالالتزام بمعايير قيمية غير قابلة للتغيير، وهي الحقوق الأساسية على غرار حرية المعتقد والحريات الشخصية، التي تراقب المحكمة الدستورية تطبيقها على أرض الواقع.
ومن هذا المنطلق، يمكن اعتبار برنامج "البديل من أجل ألمانيا" بمثابة قطيعة تاريخية مع مفهوم الوسطية الألمانية ومع تقاليد الثقافة السياسية التوافقية، وهو ما دفع الكاتب المعروف اسكندر غورليش إلى دق ناقوس الخطر في تعليق له في مجلة "ذي يوريبيان" على صعود الأحزاب اليمنية، التي يمولها سيد الكرملين فلاديمير بوتين. فهو يعتبر صعود القوى الشعبوية تهديداً مباشراً للديمقراطيات الغربية ولنموذج الحياة الغربية، لأن "مواقف هذه الأحزاب تتناقض جملة وتفصيلاً مع قيم وروح دول القانون الدستورية وتهدد مكتسبات الديمقراطية الليبرالية في الستين عاماً الماضية".
وفي أول كتاب رصين يضع حزب "البديل" الشعبوي تحت مجهر التحليل النقدي، يحذر الباحث كريستوف غيسه والباحثة ليانه بيدنارز في كتابهما المشترك "هل أصيبت ألمانيا بالجنون. الحقيقة حول حزب البديل من أجل ألمانيا" من "الاستخفاف بقدرة اليمين المتطرف على تغيير قواعد العملية الديمقراطية، فخطاب هذا الحزب اللامسؤول يهدد شرعية النظام السياسي بأكمله".
ويكمن الجهد الأكبر للكاتبين في نجاحهما في تحليل لغة "التشكيك في مصداقية الديمقراطية" وكشف القناع عن الأجندة السياسية الحقيقية لهذا الحزب، الذي يريد العودة بألمانيا إلى الثمانينيات ويطالب بالتراجع عن قوانين المواطنة الحديثة والابتعاد عن مشروع الاندماج الأوروبي والعودة إلى عسكرة السياسة الخارجية الألمانية.
وفي الواقع حاولت قيادات هذا الحزب الجديد تجنب طرح "مطالب رجعية" يمكن أن تثير مخاوف غالبية الناخبين على غرار العودة إلى نظام تحديد المسؤولية عند فشل الزواج في القوانين الخاصة بالطلاق، وتبني سياسة اقتصادية نيوليبرالية مفرطة تهدد نظام الأمن الاجتماعي في البلاد. إلا أن نيتها في تبني خطاب شعبوي معاد للإسلام والمسلمين ووضعه في صلب برنامجها السياسي يعبر عن مواقف تزداد راديكالية تجاه الأقليات وتجاه الحريات الأساسية مثل حرية الصحافة وحرية المعتقد.
وبجانب الأخطار الناتجة عن تسطيح وتسميم الخطاب السياسي الألماني يحذر الكاتبان كريستوف غيسه وليانه بيدنارز أحزاب الوسط السياسي الألماني من "تبني أطروحات اليمين المتطرف طمعاً في استرضاء واستقطاب الناخبين"، ويطالبان بأخذ الحيطة والحذر واستنباط الدروس والعبر من تجربة تعامل النخبة الفرنسية مع حزب "الجبهة الوطنية" الفرنسي اليميني. فالنخبة الفرنسية الحاكمة فشلت فشلاً ذريعا في سحب البساط من تحت أرجل اليمين المتطرف وفضلت تجاهله بدلاً من مواجهته فكرياً وسياسياً وتفنيد أطروحاته الرافضة لواقع المجتمعات الأوروبية ولإملاءات العولمة.
اقــرأ أيضاً
ولعله من نافل القول التذكير بأن الأحزاب الشعبوية لا تكترث بالمعايير الدستورية وغير معنية بتقديم حلول مقنعةً برغماتية قابلة للتنفيذ تساهم بشكل فاعل في مواجهة مشاكل وتحديات الواقع. لذلك فإن عدم تبني إملاءات اليمين المتطرف والدفاع عن قيم الديمقراطية الأساسية متطلب أساسي لمواجهة الهجمة الشعبوية الحالية.
وفي الواقع لا تملك أحزاب الوسط السياسي الألماني خياراً آخراً غير مواصلة العمل برصانة وهدوء ومواجهة الفقاعات الإعلامية للحزب اليميني الجديد بقوة الحجة والبرهان، وبذل كل الجهود الممكنة من أجل إقناع الناخبين بحقيقة أن الشعبوية اليمينية لا يمكن أن تكون بديلاً للوسطية السياسية، بل إن أطروحاتها التبسيطية المتخبطة تهدد كيان الديمقراطية الألمانية وتضعف آليات المشاركة السياسية.
( كاتب ومحلل سياسي مختص في الشأن الألماني)
وفي الواقع ساهم غياب أحزاب شعبوية تقدم شعارات وأطروحات تبسيطية لقضايا وإشكاليات معقدة عن الخارطة الحزبية منذ تأسيس جمهورية ألمانيا الاتحادية عام 1949، في تمتع النظام السياسي باستقرار فريد من نوعه. فالحزبان السياسيان الفاعلان وهما الحزب المسيحي الديمقراطي، والحزب الاشتراكي الديمقراطي، استوعبا دروس الماضي الدامي وإفشال النازيين لجمهورية فايمر الديمقراطية عام 1933، وتبنيا صيغةً توافقية لتقاسم الحكم، ما ساهم في تكريس ثقافة سياسية وسطية قائمة على تحمل المسؤولية الأخلاقية لأهوال الحقبة النازية وما شهدته من بربرية مروعة.
ومن المهم في هذا السياق الإشارة إلى أن الدستور الألماني يعطي أهمية محورية للأحزاب السياسية في النظام السياسي، كونها "تنقل إرادة الشعب إلى آليات صناعة القرار السياسي"، ولكنه يلزمها في الوقت نفسه بالالتزام بمعايير قيمية غير قابلة للتغيير، وهي الحقوق الأساسية على غرار حرية المعتقد والحريات الشخصية، التي تراقب المحكمة الدستورية تطبيقها على أرض الواقع.
ومن هذا المنطلق، يمكن اعتبار برنامج "البديل من أجل ألمانيا" بمثابة قطيعة تاريخية مع مفهوم الوسطية الألمانية ومع تقاليد الثقافة السياسية التوافقية، وهو ما دفع الكاتب المعروف اسكندر غورليش إلى دق ناقوس الخطر في تعليق له في مجلة "ذي يوريبيان" على صعود الأحزاب اليمنية، التي يمولها سيد الكرملين فلاديمير بوتين. فهو يعتبر صعود القوى الشعبوية تهديداً مباشراً للديمقراطيات الغربية ولنموذج الحياة الغربية، لأن "مواقف هذه الأحزاب تتناقض جملة وتفصيلاً مع قيم وروح دول القانون الدستورية وتهدد مكتسبات الديمقراطية الليبرالية في الستين عاماً الماضية".
وفي أول كتاب رصين يضع حزب "البديل" الشعبوي تحت مجهر التحليل النقدي، يحذر الباحث كريستوف غيسه والباحثة ليانه بيدنارز في كتابهما المشترك "هل أصيبت ألمانيا بالجنون. الحقيقة حول حزب البديل من أجل ألمانيا" من "الاستخفاف بقدرة اليمين المتطرف على تغيير قواعد العملية الديمقراطية، فخطاب هذا الحزب اللامسؤول يهدد شرعية النظام السياسي بأكمله".
ويكمن الجهد الأكبر للكاتبين في نجاحهما في تحليل لغة "التشكيك في مصداقية الديمقراطية" وكشف القناع عن الأجندة السياسية الحقيقية لهذا الحزب، الذي يريد العودة بألمانيا إلى الثمانينيات ويطالب بالتراجع عن قوانين المواطنة الحديثة والابتعاد عن مشروع الاندماج الأوروبي والعودة إلى عسكرة السياسة الخارجية الألمانية.
وفي الواقع حاولت قيادات هذا الحزب الجديد تجنب طرح "مطالب رجعية" يمكن أن تثير مخاوف غالبية الناخبين على غرار العودة إلى نظام تحديد المسؤولية عند فشل الزواج في القوانين الخاصة بالطلاق، وتبني سياسة اقتصادية نيوليبرالية مفرطة تهدد نظام الأمن الاجتماعي في البلاد. إلا أن نيتها في تبني خطاب شعبوي معاد للإسلام والمسلمين ووضعه في صلب برنامجها السياسي يعبر عن مواقف تزداد راديكالية تجاه الأقليات وتجاه الحريات الأساسية مثل حرية الصحافة وحرية المعتقد.
وبجانب الأخطار الناتجة عن تسطيح وتسميم الخطاب السياسي الألماني يحذر الكاتبان كريستوف غيسه وليانه بيدنارز أحزاب الوسط السياسي الألماني من "تبني أطروحات اليمين المتطرف طمعاً في استرضاء واستقطاب الناخبين"، ويطالبان بأخذ الحيطة والحذر واستنباط الدروس والعبر من تجربة تعامل النخبة الفرنسية مع حزب "الجبهة الوطنية" الفرنسي اليميني. فالنخبة الفرنسية الحاكمة فشلت فشلاً ذريعا في سحب البساط من تحت أرجل اليمين المتطرف وفضلت تجاهله بدلاً من مواجهته فكرياً وسياسياً وتفنيد أطروحاته الرافضة لواقع المجتمعات الأوروبية ولإملاءات العولمة.
ولعله من نافل القول التذكير بأن الأحزاب الشعبوية لا تكترث بالمعايير الدستورية وغير معنية بتقديم حلول مقنعةً برغماتية قابلة للتنفيذ تساهم بشكل فاعل في مواجهة مشاكل وتحديات الواقع. لذلك فإن عدم تبني إملاءات اليمين المتطرف والدفاع عن قيم الديمقراطية الأساسية متطلب أساسي لمواجهة الهجمة الشعبوية الحالية.
وفي الواقع لا تملك أحزاب الوسط السياسي الألماني خياراً آخراً غير مواصلة العمل برصانة وهدوء ومواجهة الفقاعات الإعلامية للحزب اليميني الجديد بقوة الحجة والبرهان، وبذل كل الجهود الممكنة من أجل إقناع الناخبين بحقيقة أن الشعبوية اليمينية لا يمكن أن تكون بديلاً للوسطية السياسية، بل إن أطروحاتها التبسيطية المتخبطة تهدد كيان الديمقراطية الألمانية وتضعف آليات المشاركة السياسية.
( كاتب ومحلل سياسي مختص في الشأن الألماني)