اليسار المصري.. إشكاليات التنظيم والبديل الديمقراطي [1- 2]

11 فبراير 2015
كانت شروط الانفجارات الثورية في البلدان العربية حاضرة (أ.ف.ب)
+ الخط -

عند انفجار الثورات العربية، لم يتصدرها أي تشكيلات لتنظيمات حزبية أو حركية لتيارات ديمقراطية أو غير ديمقراطية، وظلت الجماهير مندفعة بحكم الدفع الذاتي المرتكز وحده على غضب ضد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وكان هذا التيار الجماهيري الجامح بلا لون أيديولوجي، أو عقائدي، أو سياسي. كانت شروط الانفجارات الثورية في البلدان العربية حاضرة، لكن شروط البديل السياسي والثوري كانت غائبة، فقد عجزت المجموعات الشبابية، عن إحداث توافق في ما بينها لإنتاج بديل ما، وظهر فشلها مبكراً بحكم ظروف ذاتية وموضوعية عديدة، وظل الفراغ حاكماً ومهيمناً تملؤه مرة إما مؤسسة رجعية تنتمي شكلاً وموضوعاً إلى بنية النظام القديم، وإما مؤسسة حزبية أو تنظيمية يمينية/ أو دينية غير ديمقراطية، أو تحالف من هذا وذاك.

الحقيقة أن أزمة اليسار المصري هي جزء من هذا السياق، سياق غياب البديل الديمقراطي المنحاز إلى مصالح الجماهير، والمعبّر عن طموحاتها الاقتصادية والاجتماعية، وكان لعجز الحركة اليسارية وعدم قدرتها على تنظيم صفوفها أسباب موروثة، وأسباب ذاتية، وأخرى طارئة، ذاتية مرتبطة ببنية الحركة اليسارية، وشكل خطابها السياسي، وطبيعة الخلفيات الاجتماعية لأعضائها وكوادرها، وطارئة مثل تعاملها مع الوضع السياسي بعد 25 يناير، ونمط تحالفاتها، وأسباب موروثة مرتبطة بوضعها التاريخي، وإشكاليات عدة عانت منها الحركة اليسارية منذ نشأتها وحتى اللحظة.

الخارطة اليسارية

بداية، اليسار المصري يجد جذوره الأساسية في تيارات سياسية - فكرية، إما انتمت في أغلبها إلى الدولة الناصرية، أو إلى التيار الستاليني في الحركة الشيوعية المصرية، أو إلى تنظيمات السبعينيات الناقدة للحزب الشيوعي. ورغم الخلافات التاريخية بين هذه التيارات الثلاثة، إلى أن أغلبها تقاربت على رؤية "وطنية" أخذت في مجرى التسعينيات ملامح "تنويرية" واضحة.

وعندما اندلعت الثورة وجدت يساراً صغير الحجم، يهيمن عليه هذا التجمع الوطني التنويري (على خلافاته)، وهو تجمع قديم، شبه ميت، يحمل رطانة يتم تكرارها، وليس تجديداً فكرياً، ومضمون رؤيته السياسية إصلاحي وطني تنويري، أقرب إلى يسار الليبرالية ليس أكثر.

ثم إلى جانب هذا القطاع المهيمن يمكن القول إنه توجد تيارات أصغر (ولكنها أكثر حيَّوية وتأثيراً في القطاع الشبابي)، من أهمها: التيار اليساري الديمقراطي، وهو تيار متأثر بفكر اليسار الديمقراطي العالمي، وأكبر قوة في هذا التيار هي مجموعة يسار حزب "المصري الديمقراطي الاجتماعي"، وقد عبَّر هذا التيار عن نفسه في الأعوام الأخيرة للثورة باندفاعه إلى المشاركة في جبهة الإنقاذ، ثم بتأييده النقدي للسيسي، فأصبح هو الجناح الديمقراطي المشارك في حكومة ما بعد 3 يوليو/تموز 2013، وينتمي إلى نفس المدرسة، لكن على يساره قليلاً المجموعة التي شكلت حزب عيش وحرية، وداخل هذه التيارات الصغيرة أيضاً هناك اليسار الاشتراكي الثوري، ثم اليسار الأناركي وشبه الأناركي، وهؤلاء يختلفون عن بعضهم البعض، لكنهم يسيرون على خط ناقد بشكل حاسم للسلطة العسكرية، وكذلك للإخوان (مع اختلافاتهم التكتيكية المهمة في هذا الشأن).

وبالضرورة هنا، نظرا للاختلافات البيِّنية الشديدة، أهمها الموقف من قضية الديمقراطية الجذريَّة ومدى بروزها في خطابه ورؤيته السياسية، يصعب وضع اليسار القومي، خصوصاً اليسار القومي في صيغته الناصرية، بجوار اليسار الماركسي الذي يمكن أن تقيّم تجربته بشكل منفرد.

بوصلة التحالفات

الحركة اليسارية واجهت بعد تنحي مبارك مباشرة، وفي ظل أتون المعركة الثورية معضلة في تحديد أولوية الصراع الذي يجب التحرك على أرضيته، هل الأولوية للصراع السياسي أم للصراع الاقتصادي والاجتماعي، أو لوضع القدمين في المساحتين، ومن ثم بناء خطتين للعمل متوازيتين تميل كفة إحداهما - بحسب الأولوية - على حساب الأخرى، لبناء قاعدة جماهيرية معبر عنها بتنظيم ورأس حربة سياسية.

أخيراً حسمت الحركة اليسارية خيار التوجه والعمل لصالح المعركة السياسية على حساب معركة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بشكل كامل تقريباً. فأجندة التحالفات السياسية التي اتجه اليسار مبكراً إلى تكوينها أو التحالف معها كانت مبنية على أرضية بعيدة عن الصراع الحقوقي والاقتصادي. فبعد أيام قليلة من الإطاحة بمبارك، رأت أغلب الأحزاب اليسارية أهمية التحالف مع الأحزاب الليبرالية اليمينية، والانضواء تحت جبهاتها الانتخابية التي تقوم برعايتها إعلامياً ومادياً، لكبح تمدّد اليمين الديني وتحالفه مع المؤسسة العسكرية قبل وبعيد استفتاء مارس/آذار على تعديل دستور 1971 الذي جاءت نتائجه لمصلحة التيار الديني، وبالتالي حملت رموز ثورية يسارية شهيرة إلى البرلمان الأول بعد الثورة على أكتاف قائمة انتخابية يتصدرها أحد أكبر الأحزاب الليبرالية في مصر.

استمرَّ الأمر على هذا المنوال حتى اللحظة، وكان الاستقطاب دائماً على أجندة بعناوين مختلفة، لكن لم تتجه المجموعات اليسارية فعلياً إلى رسم خط واضح لها لدعم مسار مختلف على أرضية اقتصادية/ اجتماعية، باستثناء تجربة قائمة على الثورة المستمرة.

فشل بناء حركة يسارية واسعة

مثَّلت ثورة يناير فرصة جيدة للحركة اليسارية لبناء حزبها الواسع الذي يشمل تحت يافطته مجموعات يسارية متنوعة، تتوافق على أجندة عريضة لبرنامج سياسي يمكن العمل من خلاله، وتحقيق ما لم تستطع إنجازه المجموعات اليسارية العنقودية الصغيرة. غير أن التجربة "الوحيدة" التي تمّت بعد الثورة، والتي قادتها مجموعة حزب (التحالف الشعبي الاشتراكي) فشلت لأسباب متنوّعة، ما بين تمركز صناعة القرار في يد مجموعة مركزية، وفشل تطبيق نظام المنابر داخل الحزب، وتعاظم حالة "البقرطة" داخل التنظيم، ثم تحفظ مجموعات بعينها داخل الحزب على أدائه واتجاهه السياسي بعد 3 يوليو/تموز 2013، وهو ما أدى إلى انشقاق أفراد ومجموعات عديدة منه لتكون مجموعة حزبية جديدة (حزب عيش وحرية) أو الدخول في جبهة سياسية واسعة (جبهة طريق الثورة)، أو تدخل في حالة انسحاب نتيجة، بحسب ادعائها، للقوانين الاستثنائية التي تم فرضها (قانون التظاهر)، والأزمات التي قابلت المجال السياسي بشكل عام بعد 3 يوليو.

وهو الأمر ذاته الذي تكرر في المساحة الطلابية والعمالية، والتي كان يمكن بناء قاعدة قوية فيها بسهولة، خصوصاً في السنتين اللتين أعقبتا الثورة، فالثورة أعطت للحركة اليسارية فاعلين جدداً، ومساحة تحرك كبيرة، وأرضية في القطاع العمالي، كانت قابلة لتشرّب أي برامج يسارية تتحدث عن حركة استرداد المصانع التي تمت خصصختها في عهد مبارك، وبلورة الحراك العمالي في نقابات قوية شبيهة على الأقل بالتجربة التونسية التي مثلت وزناً في الصراع السياسي هناك، لكن كانت الصورة درامية للغاية. يسار ظل يبحث عن الجماهير خلال أكثر من ثلاثين عاماً يخوض بها الثورة، فلما أتت الجماهير فوجئت بعجزه وغيابه وضعف أدواته!

(مصر)