الوهم ونموذج البطل

31 يوليو 2016

(عبد الرحمن الزناتي)

+ الخط -
يشهد العالم العربي ظاهرة البحث عن نموذج بطلٍ، يعلق الناس آمالهم عليه، يختارون غالباً سياسياً تؤهله مواقفه المعلنة ليكون النموذج المرغوب والمنتقى. وعادة يقع الاختيار على شخصية لها مواقف تشعل في قلوبهم بعض الآمال المبعثرة، سعيا وراء أحلامهم بالخلاص من حالةٍ بائسةٍ يعانون منها، من دون أن يحظوا بدعمٍ يمكّنهم من النجاة الفعلية مما هم عليه، وما آلوا إليه، من دون أن يخطر لهم أن طموحات هؤلاء القادة تصب في مصلحة بلدانهم فقط.
لا بد أن التاريخ يتحمل بعض اللوم لدوره في توجيه العقل العربي إلى الاعتماد على الرموز المضيئة، بدلاً من الاعتماد على القدرات الذاتية، والعمل على تنميتها، فقد زخرت فصول تاريخنا بالحديث عن أبطالٍ أنقذوا شعوبهم من كوارث سياسية كانوا يعانون منها، نتيجة استهداف منطقة البحر المتوسط من طامعين كثيرين، لكن التاريخ الذي يكتبه المنتصر أغفل تسليط الضوء بحكمةٍ عليهم، أي الأبطال المخلِّصين، فهؤلاء كثيراً ما فشلوا في إنتاج عائلاتٍ متماسكة، الأمر الذي كان يؤدي إلى صراع الأخوة، ومن ثم تجزئة مملكة آبائهم، وتحويلها إلى إماراتٍ متنازعة. كانت خطط أبطال التاريخ لما بعد مماتهم مدمرةً لجهودهم التي بذلوها في حياتهم، ولم تركّز دروس التاريخ على ما آلت عليه الأمور، بل حافظت، وللأسف، على نسق الخطاب نفسه في ترويج الأبطال، ما أدى إلى فقدان الطلبة حظوظهم بفرصة التعلم من العبر، باستثناء المجدّين منهم. وفي معظم الأحيان، يكون الأثر سلبياً على حاضرهم، لدى مقارنتهم الواقع المتهالك بالماضي المزخرف، فالنتائج غالباً ما تكون محبطةً على الصعيد النفسي، وترتفع نسبة الإحباط هذه بشدة لدى كثيرين لا يجدون في أنفسهم المقدرة على تجاوز الواقع الأليم الذي يعيشونه. وببساطة، لا تعير دروس التاريخ في بلادنا مسألة الحاضر، وتغيّر أدوات الصراع، ولا تبدل مراكز القوّة أهمية تذكر. مع هذه التراكمات، يصبح البحث عن مشروع بطلٍ حاضر جائزاً، بل ومبرّراً على نحو كبير.
لن نغفل، هنا، الحالة الأهم التي أوصلت العقل العربي إلى ما هو عليه، فعمل نظم حاكمةٍ كثيرة على تغييب الإبداع، كحالةٍ قصوى من حالات النبوغ، وزجّها في ورطة السياسات القمعية، بدءاً من خمسينات القرن الماضي، كان لها دورها في تعزيز حالة انعدام الثقة بالنفس التي ترافق الخوف من مصيرٍ مجهول، حيث يُدفع الإنسان مرغماً إلى تأييد نخب الحكم، والتعايش مع فكرة القائد الواحد الذي لا يخطئ، ولا يحاسب. عمّت هذه الظاهرة معظم دول العالم العربي، وكان لها تأثيرها السلبي الأقوى على أجيالٍ ولدت معها، من دون أن تختبر نظاماً بديلاً، وأجبر جيل كامل على تشرّب مفهوم الراعي والرعية، فأصبح عصياً عليه أن يدرك أن مقتضيات الحياة تتطلب غير هذا، من دون أن يمرّ بمرحلة اختبار التجارب المريرة التي قد تعمد على صقل كثيرين منهم، بالدرجة نفسها التي تدمر فيها آخرون كثيرون.
كان للخيبات المتكرّرة التي مني بها الإنسان العربي دورها المهم في تشويه فكر الأجيال الشابة، إن لم نشأ القول إن هذه الحالة يمكن إسقاطها على كثيرين تجاوزوا سن الأربعين، حيث المشكلات التي جلبت الكوارث معها لا تزال عالقةً، بل ازداد عددها، وتنوّعت أماكنها، واتّسعت مساحتها على نحو مرعب. وفي المقابل، ارتفع، وبشكل مريع، عدد المحبطين، وتضاعف حجم معاناتهم التي بلغت مستوى الكوارث البالغة الشدة، عوضاً عن التوصل إلى حلول لمشكلاتهم، ولو كان ضمن الحدود الدنيا التي يمكن لها أن تمنحهم حياةً مقبولةً على الصعيد الإنساني.
اتجاه الأنظار إلى مكان آخر، بحثا عن نموذج بديل لصورة البطل المنقذ، وضياع بوصلة البحث عن المقدّرات الإنسانية في العقل البشري، والعمل على تنميتها، مسألة على غاية من الجدّية، لكنها تحتاج ظروفاً ملائمة يمكن لها أن تنقذ الأجيال من ورطتها هذه، بحيث تستعيد بعض عافيتها، وتعيد التوازن إلى أولوياتها، فحالة الإحباط الناتج عن فقدان الرجاء على مساحة العالم العربي تتطلب العمل بجديةٍ في المناطق التي لم تصبها الكوارث، ريثما تستقيم أمورٌ ما زالت آفاقها مجهولةً في البلدان المشتعلة.
يبدو مصطلح البطل المنقذ قديماً وباهتاً، بل وغارقاً في الغيبية، لكن المستحيل الذي لن يتحقق هو نفسه الوهم الذي تتعلق بذيوله جموع الشباب في عالمنا العربي، دعماً لأحلامهم في الغد، على الرغم من أن لغتيْ اليوم والغد هما من منابع الذات التي ألقت بها المصائب المتتالية في درك الاعتلال.
A60672CF-812E-4EBA-9E70-59D1E2D3138C
A60672CF-812E-4EBA-9E70-59D1E2D3138C
نداء الدندشي

كاتبة وباحثة سورية، درست التاريخ والآثار في جامعة دمشق، عملت أمينة متحف حمص من 1988إلى 2009. من مؤلفاتها (حمص... لما اكتملت). نشرت دراساتٍ عن عمارة مدينة حمص القديمة.

نداء الدندشي