الوكسة بعد النكبة والنكسة

21 مايو 2015
+ الخط -
ما كان يمكن أن يمر يوم الخامس عشر من مايو من دون التوقف عنده طويلاً، ففي مثل هذا اليوم منذ 67 عاماً، اليوم التالي مباشرة لإنهاء بريطانيا انتدابها على فلسطين، خرج صوت الصهيوني، ديڤيد بن غوريون، عبر أثير راديو تل أبيب، ليعلن على العالم قيام دولة إسرائيل، وتسارع الولايات المتحدة الأميركية، بعد حوالي 11 دقيقة إلى إعلان اعترافها بالدولة الوليدة، وتعقبها الدولة العظمى الثانية في عالم ذلك الزمان، وهي الاتحاد السوڤييتي، بفاصل 5 دقائق فقط، وتعلن اعترافها، وتتبعهما دول أخرى عديدة. وهكذا تحول الحلم الذي بشر به تيودور هيرتزل، عقب انعقاد المؤتمر اليهودي الأول، في بازل عام 1898، إلى واقع، عندما كتب في مذكراته (إن العالم سيشهد مولد دولة إسرائيل بعد 50 عاماً)، وكان بعض حكام العرب قد عقدوا العزم قبلها على التصدي للدولة المزعومة حال إعلانها، لمنع قيامها بالقوة. وبالفعل، انطلقت الجيوش العربية معلنة الحرب على "العصابات الصهيونية"، لتحرير الأراضي الفلسطينية. ومن دون استعادة وقائع مريرة، انتهى الأمر بهزيمة عربية، وتكريس وجود الدولة اليهودية عبر توقيع اتفاقيات هدنة ثنائية معها، وخروج الفلسطينيين من أرضهم التي أقيمت عليها دولة إسرائيل، ليتحولوا إلى لاجئين في مخيمات داخل الأراضي الفلسطينية وخارجها، والتقديرات تتحدث عن قرابة 750 ألف فلسطيني، وباقي القصة معروف. عادت الجيوش منكسرة إلى بلادها، وانضمت الضفة الغربية والقدس إلى شرق الأردن، لتصبح المملكة الأردنية الهاشمية، ووضع قطاع غزة تحت الإدارة المصرية، بعد فشل محاولات إقامة كيان فلسطيني، عبر ما سميت حكومة عموم فلسطين، وأنشأت الأمم المتحدة وكالة غوث اللاجئين، وخيّم الوجوم على كل العالم العربي، فقد كانت الصدمة شديدة الوقع، ولم يجد لها الناس مسمى أبلغ من "النكبة"، وأطلق على العام 1948 عام النكبة، ومنذئذٍ، صارت للأمة قضية، هي القضية الفلسطينية. 

وللمفارقة، فإن عام 2015 يشهد مرور 67 عاماً على نكبة 48، ومرور 48 عاماً على نكسة 67، وللنكسة حكاية أخرى، فبعد 19 عاما من النكبة، كان العالم العربي قد شهد متغيرات حادة، أهمها تغيير نظم الحكم في مصر والعراق، بعد انقلابات عسكرية ثورية، أو ثورات عسكرية انقلابية على نظم الحكم الملكية التي كانت قائمة، وظهور التيار القومي مع صعود نجم جمال عبد الناصر زعيماً عربياً، رفع شعارات محاربة الاستعمار، وأعوان الاستعمار من النظم الرجعية، وتحرير فلسطين. وألهب مشاعر المواطنين العرب من المحيط إلى الخليج، خصوصاً بعد نجاحه في إدارة أزمة السويس 1956، بعد تأميمه القناة والعدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي على مصر، وخروجه من الأزمة رافعاً شعارات النصر بعد فشل العدوان، ثم اتجاه عبد الناصر إلى دعم الحركات "التحررية" في العالم العربي، كما حدث في العراق وفي الجزائر وفي اليمن وسورية، وغيرها. ولم يقف الأمر عند ذلك الحد، بل اتجه إلى أفريقيا، ودعم علاقاته بالاتحاد السوڤييتي السابق، خصوصاً في مجال التسليح، وإعادة تنظيم الجيش. وبدا وكأنه يقود قوة إقليمية كبرى، قادرة على فرض إرادتها ونفوذها على المنطقة. ولم يكن هذا أمراً مقبولاً، ويمكن السكوت عليه من قوى إقليمية عديدة، في مقدمتها بطبيعة الحال العدو الإسرائيلي، ولا من القوى الدولية التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية، ورئيسها الجمهوري العتيد في ذلك الوقت، ليندون جونسون. واتفقت إرادات قوى عديدة، مع اختلاف أهدافها، على توجيه ضربة قاصمة لمشروع عبد الناصر الإقليمي الطموح، ووضعت الخطة بإحكام، وتم استدراج عبد الناصر إلى الفخ.
وعندما بلغت التعبئة المعنوية للجماهير على امتداد العالم العربي ذروتها، جاءت الضربة الإسرائيلية في ضحى الخامس من يونيو/حزيران 1967، ولم تمض ستة أيام، حتى كان العدو الإسرائيلي قد احتل كل سيناء، ونشر قواته على امتداد الضفة الشرقية لقناة السويس. واستكمل احتلال كل الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة وهضبة الجولان السورية ومزارع شبعا اللبنانية (وكلها عدا سيناء، لازالت محتلة، باستثناء قطاع غزة الذي تم الانسحاب منه وحصاره). واستيقظ المواطن العربي على صوت عبد الناصر منكسراً، يبلغه، عبر الأثير، خبر الهزيمة التي تحولت إلى النكسة، وأصبح لدينا نكبة 48 ونكسة 67، وتحولت قضية فلسطين إلى قضية الشرق الأوسط. وسقطت مصطلحات مثل، إسرائيل المزعومة، وتحرير فلسطين، وظهرت مصطلحات أخرى، مثل إزالة آثار العدوان، وخطوط الرابع من يونيو، ثم تطورات الأمور، بعد حرب 1973 إلى عملية السلام، والمبادرات ثم المفاوضات واتفاقيات السلام والترتيبات الأمنية بالنسبة لمصر والأردن، وأوسلو والحكم الذاتي، وأخيراً، السعي إلى حل الدولتين بالنسبة للفلسطينيين، وأخيراً، مبادرة السلام العربية التي ترفضها إسرائيل.
 

بقيت النكبة ماثلة في ملايين اللاجئين الفلسطينيين المتشبثين بحلم حق العودة، وملايين أخرى داخل ما أسميناه الخط الأخضر يحملون بطاقات العدو الإسرائيلي، وأطلقنا عليهم عرب 48. وبقيت النكسة قائمة بقدس محتلة يجري تهويدها على قدم وساق، وضفة معزولة بالجدار ونقط التفتيش ومشروعات الاستيطان، وغزة المحاصرة، وفي مرمى النيران كلما أراد العدو، وجولان محتل، فلا تجاوزنا النكبة، ولا أزلنا آثار النكسة.
ولا يمكن أن تمر تلك الذكرى هكذا مرور الكرام، فإذا كانت النكبة قد سبقتها مقدمات طويلة أدت إليها، والنكسة، أيضاً، قادتنا إليها مقدمات لم ندركها في حينها، فإننا اليوم، في العالم العربي نفسه، نعيش مقدمات تكاد تصرخ فينا إننا مقدمون على كارثة ليست أقل مما سبقها، هي الوكسة، وإلا فماذا يمكن أن نسمي هذا المشهد: إسرائيل "المزعومة" أصبحت الدولة الأقوى في المنطقة، وهي الدولة النووية الوحيدة، بما يمثله ذلك ليس فقط من قوة ردع، ولكن أيضا من تفوق علمي وتكنولوجي، والطوق الذي كان يحيط بها، ويضم أربع دول معادية، مصر والأردن وسورية ولبنان، تحول إلى حزام أمان، بعقد معاهدات سلام مع دولتين، ودخول سورية في نفق تمزق وحروب طائفية، ووجود قوات "يونيفيل" حاجزاً في جنوب لبنان، وانصراف حزب الله إلى الشأن اللبناني الداخلي. أما الوضع الفلسطيني، فحدث ولا حرج، ضفة وسلطة تلهث وراء جلسة مفاوضات مع العدو، وخبر وصورة في وكالات الأنباء، وقطاع محاصر ومستهدف من العدو والصديق.
وباقي المشهد العربي من العراق إلى ليبيا إلى اليمن غني عن التعريف، والمشروع الأميركي للشرق الأوسط الجديد ماض في طريقه بلا تعويق، ولا صوت، في كل العالم العربي، يعلو على صوت الاقتتال الداخلي، والاستقطاب الطائفي والطبقي والقبلي، فإذا لم تكن تلك، بعد 67 عاما على "النكبة"و48 عاما على "النكسة" هي الوكسة، فماذا تكون؟

2FABA6BB-F989-4199-859B-0E524E7841C7
عادل سليمان

كاتب وباحث أكاديمي مصري في الشؤون الاستراتيچية والنظم العسكرية. لواء ركن متقاعد، رئيس منتدى الحوار الاستراتيجى لدراسات الدفاع والعلاقات المدنية - العسكرية.