الوضع الفلسطيني واستدرار الماضي
شاهدنا في ما ذهبنا إليه الأحداث التي وقعت، أخيراً، في قطاع غزة، ومعها تطورات الضفة الغربية، في ظل المناداة الفلسطينية الجمعية من غالبية فصائل العمل الوطني، بما فيها فصائل منظمة التحرير، بوقف التنسيق الأمني الرسمي بين السلطة الفلسطينية وسلطات الإحتلال. وفي ظل التضارب في المواقف بين أطراف المعادلة الفلسطينية تجاه ما يجري في القدس، حيث يرى بعضهم أن الانتفاضة الثالثة قادمة لا محالة، وأنها خيار لا بد منه لكسر المعادلة القائمة، والخروج من شرنقتها، وإعادة الحضور إلى القضية الفلسطينية، بعد انزياحها النسبي عن مسرح الأحداث، نتيجة التفاعلات الساخنة الجارية في أكثر من بلدٍ عربي. وبين مَن يرى أن الانتفاضة الثالثة ستكون، حال اندلاعها، انتحاراً فلسطينياً جديداً، في ظل المعطيات الإقليمية الراهنة، وغياب الأسانيد والروافع العربية، ورغبة مُختلف الأطراف، بما فيها العربية، بتجنب اندلاع المواجهات في الداخل الفلسطيني مع الاحتلال، حتى لو كانت بمظاهرها السلمية الشعبية. كما ترى ضرورة ترك الأمور للقنوات الدبلوماسية وحدها، من أجل وقف التدهور الحاصل، والضغط على حكومة نتنياهو لوقف إجراءاتها اليومية في القدس، لجهة توسع عمليات التهويد والاستيطان، وهو ما بان واضحاً في زيارة وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، للمنطقة، أخيراً، مع تصاعد التوتر في مدينة القدس ومحيطها.
وحتى لا نُتهم بتسويق التشاؤم، وحتى نتكلم بموضوعية، بعيداً عن المبالغات وعن تسويق الرغبات، فقد بانت، في الفترة الأخيرة، المساحة الواسعة من الافتراق في الساحة الفلسطينية، على الرغم من معسول الكلام الذي أطلقته حناجر الناس، وحناجر المتفائلين، والأمنيات المشروعة التي يريد الفلسطيني أن يرى تفعيلاتها على الأرض، من خلال إغلاق ملف الانقسام وطيّه، وإقلاع عمل حكومة التوافق التي تم تشكيلها قبل أشهر. فالتباين البرنامجي بين طرفي المعادلة الفلسطينية مسألة لا يُمكن إغفالها بسهولة وبساطة. لكن، في المقابل، يُمكن تجاوزها بإحداث واجتراح مقاربات مُمكنة، لا يعجز عنها العقل السياسي الفلسطيني، حال توفرت النيات والإرادة، وغابت العصبيات التنظيمية والاستحواذية.
كما أن الأحداث المُتسارعة على الأرض باتت (للأسف) تعمل على تعميق هذه الهوّة، بحدود معينة، بدلاً من تضييقها وتجسيرها، حيث ما زال الرهان مستمراً على حشر العملية الكفاحية الوطنية الفلسطينية عبر قناة التفاوض السياسي وحده، وعبر قناة التأثير والتدخل الدبلوماسي والاتكال عليه، مع إغفال كل الأشكال الكفاحية الشعبية الانتفاضية التي يمكن لها أن تُحدث تعديلاً، ولو بحدودٍ معينة وملموسة في مسار العملية السياسية التفاوضية، غير المتوازنة أصلاً.
من جانب آخر، الطامة الكبرى، هنا، أن جزءاً كبيراً من خلفيات الانقسام في اللوحة الفلسطينية يتمثل في غياب القناعة عند بعضهم بمسألة التشاركية الوطنية في صياغة القرار الوطني الفلسطيني، وصناعته وإدارته، على مستوياته المختلفة. حيث ما زالت تعشش في أذهان بعضهم عقلية الاستحواذ، واحتكار سلطة القرار، واستدرار الماضي، وسيادة منطق تقاسم الحصص (الكوتا)، المعمول به منذ قيام ائتلاف منظمة التحرير الفلسطينية في فبراير/ شباط 1968، وهو المنطق المُتقادم الذي أسس تاريخياً لحالة فلسطينية تتمتع بديمقراطية شكلية، لكنها، في جوهرها، منافية لذلك، وتقوم على قاعدة "السمك الكبير يبتلع السمك الصغير". كما هو نفسه المنطق الذي توافقت عليه مختلف القوى داخل ائتلاف منظمة التحرير، على الرغم من ضجيجها الإعلامي واحتجاجاتها اللفظية على التهميش، والاستحواذ على سلطة القرار من حركة فتح، ومنها فصائل اليسار الفلسطيني تحديداً، وهي التي ارتضت تاريخياً بما تم منحه لها من مقاعد في المؤسسات الوطنية في منظمة التحرير الفلسطينية (اللجنة التنفيذية + المجلس المركزي + المجلس الوطني/ البرلمان الموحد للداخل والشتات)، وبالطبع مع (الكوتا) المالية التي يُقدمها الصندوق القومي الفلسطيني لمختلف تلك القوى، وفق تقسيمة (الكوتا) إياها والمُعتمدة منذ سنواتٍ طويلة.
مع ذلك، وعلى الرغم من كل المُعيقات، تتطلب المصلحة الوطنية الفلسطينية من الجميع التغلّب على المصاعب مهما بدت، من أجل إعادة بناء العقد الوطني التاريخي، بإنجاز وحدة الساحة الفلسطينية في الداخل والشتات. والعودة إلى ترجمة نتائج الحوارات الوطنية الفلسطينية التي امتدت فترات طويلة في القاهرة، بما في ذلك إعادة النظر في تركيبة منظمة التحرير، لجهة استيعاب الجميع ضمن أطر المنظمة، وبالتحديد الفصيلين الأساسيين الموجودين حالياً خارج أُطر المنظمة، حركتي حماس والجهاد الإسلامي، طبقاً لوجودها ووزنها وفاعليتها على الأرض في الداخل والشتات.
إنجاز الوحدة الوطنية وطي ملف الانقسام، شرط أساسي لا بد منه لإحداث انتقالات إيجابية، جدية، وحقيقية في الوضع الفلسطيني، خصوصاً في ظل المرحلة الصعبة الحالية التي تمر بها الأراضي الفلسطينية المحتلة في القدس ومحيطها، والصمت الذي يلوذ بملف إعادة إعمار قطاع غزة، بعد الحرب العدوانية الإسرائيلية أخيراً، حيث المماطلة ووضع العصي بالعجلات من أطرافٍ مختلفة، وسيف التعطيل الإسرائيلي.