07 نوفمبر 2024
الورود والأشواك
يمرّ العالم أجمع بضائقةٍ لم تكن منتظرة، حيث انتشر وباء عَمَّ، بدرجات متفاوتة، مجتمعاتٍ كثيرة، وشمل كل القارات، وسقط آلاف الضحايا في الصين وكوريا وإيطاليا وإيران وإسبانيا ثم باقي الدول.. لم يكن الأمر متوقعاً والبشرية تَنْعَمُ منذ عقود بفتوحات العلوم الطبية ومآثرها، إلا أن بروز فيروس كوﭭﻳﺩ 19 المتداول باسم كورونا، وتحوّله، خلال أشهر معدودة، إلى جائحة، وضع العالم في مواجهة عدو قاتل، وضعه، في الوقت نفسه، أمام ذاته، وذلك على الرغم من كل الجهود والاكتشافات الطبية التي ساهمت في تيسير حياة الإنسان.
لنترك المتخصصين في علوم الطب يواجهون الدوائر الغامضة في مجالات تخصصهم، ولنتجه نحو الآثار الأخرى المرتبطة بالجائحة التي شملت عالمنا ومن دون تمييز، ما عدا التمايزات القائمة بين المجتمعات في موضوع الموارد البشرية والبنيات التحتية، ذات الصلة بالقطاع الصحي بمختلف أصنافها، فنحن على بيِّنة بأن البنيات والموارد المذكورة تظل، كيفما كان مستواها، غير قادرة على مواجهة مختلف الآثار التي تُنتجها الأوبئة، وهي تملأ الأرض بالضحايا، وتنشر وسط المجتمعات مظاهر الخوف والترقب، بكل ما يترتب عن ذلك من نتائج نفسية، وبكل الآثار التي تولدها في الاقتصاد وحركة الإنتاج.
أخطر ما في الأوبئة ليس الموت الذي يصبح قريباً، وليس التأثيرات المتصلة بحياة الناس داخل
المجتمعات، خصوصا المكوث في بيوتهم في إطار ما يُعرف بالحجر الصحي. أخطر ما يصاحب الأوبئة والجائحات هو مناخها النفسي العام، وما يرتبط به من أحاسيس كاشفة هشاشة البشر. وفي مقابل ذلك، الخطوة الأولى المطلوبة لمواجهة كورونا تتمثل في بناء ما يساعد على ضرورة التعايش معها، حيث ينبغي أن نواصل إقبالنا على الحياة، على الرغم من كل المصائب والأحزان المترتبة عنها، وعلى الرغم من كل أصناف الضيق والتبرّم التي تولِّدها. يُبرز وباء كورونا جوانب عديدة من صور عجزنا أمام معطياتٍ طبيعية، لم يكن بإمكاننا أن نتوقع حصولها. وحلم الإنسان المسلح بالعلم والتقنية والأمل، وهو حلم استغرق أكثر من أربعة قرون، لم يُتِح لنا، على الرغم من كل منجزاته الفائقة، أن نصبح فعلاً سادةً على الطبيعة، حيث ما زالت الأخيرة تصنع أمامنا بين حين وآخر ما يبرز محدودية معارفنا، عالم ما نزال نجهل كثيراً من أوجهه وأحواله.
تختلف أشكال مواجهة المجتمعات الأوبئة والكوارث حسب نوعية هذه وطبيعة تلك. ويعدّ الحجْر الصحي من الإجراءات الضرورية للحدّ من تفشي وباء كورونا داخل المجتمع، وقد دخلت عشرات المجتمعات خلال الأسابيع الماضية في تطبيقه، ومنعت الأفراد من الخروج من بيوتهم إلا للضرورات. امتثل الجميع خوفاً من عدو غير مرئي، وخوفاً من العزل الصحي الذي يدخل المصابين بكوﭭﻳﺩ 19 إلى المستشفيات والمصحّات، في انتظار الدواء الذي يتواصل البحث عنه في أكثر من مختبر في العالم. يتم هذا فيما يرتفع عدد الضحايا في الدول المتقدمة والفقيرة.
ومؤكد أن الجوائح لا تخيف ولا تنشر الهلع فقط، كما أنها لا تقتل المئات يومياً فحسب، إنها
تصنع نمط وجود مناسب لطبيعتها، فتدعونا إلى البقاء في البيوت وأمرُها لا يُرَدّ، وما علينا إلا أن نكيِّف ما تبقَّى من عمرنا مع مقتضياتها في انتظار الفرج. ولكن البقاء في البيت بالنسبة للذين ألفوا الخروج منه للعمل أو للتسلية ليس أمراً سهلاً، إلا أنه يمكن التدريب عليه ثم الاستئناس به، انطلاقاً من اعتباره مؤقتاً، حتى عندما يكون من المتوقع في ظِلٍّ جائحة اليوم أن يستمر أشهراً.
ليس الحجْر الصحي إجراءً حياتياً معتاداً. إنه يتم في زمن الأوبئة ليوقف نمطا من العادات والأعمال، وترتبط مقتضياته والنتائج التي يمكن أن تترتب عنه بنمط الإنتاج داخل مجتمعاتنا، الأمر الذي يترك آثاره في كل مرافق الحياة، كما يترك آثاره في النفسيات والسلوكات. وهو لا يؤدّي فقط إلى حرمان الأفراد من العادات التي ألفوها، بل إنه يتيح لهم، في الآن نفسه، وضعاً يُمَكِّنهم من العودة إلى ذواتهم، ومعاينة أشكالٍ من المعاناة والنظر في جوانب من حياتهم بعيون أخرى، حيث يمكن أن يستطيب الواحد منهم في قلب بيته مزايا عديدة وغير متوقعة. كما أن الشوارع والمدن المهجورة تتخذ صورا أخرى بدون حركة المارّة والسيارات، ومن دون مقاه ومطاعم وأصوات. صحيح أن الحجْر الصحي يرتبط بمسألة الوقاية والحد من تفشّي الوباء، ولكنه يمكن أن يستوعب كخلوة للاستماع إلى الذات، وكسر ما التصق بها من عادات وسلوكات.
توقظ الكوارث الطبيعية والأوبئة الروح الرواقية في الإنسان، فينبري بعضهم، تحت هول ما يسمع ويرى، ليقول إن ما يقع اليوم في عالمنا من جائحات مقدَّر ومكتوب، ولا مفر منه. ويتجه آخرون إلى ربط الأوبئة بسياقات وعوامل ذات صلة بالمجال الذي تنتمي إليه، فيتحول، في ضوء نمط من التعقل الموضوعي، إلى حدث مشروط بمواصفات محدَّدة. وخارج الموقفين السابقين، يمكن أن يُستحضر موقف ثالث يرتبط بعنوان هذه المقالة، الورود والأشواك.. ذلك أننا، في كل الأحوال، نحب الورود ونخاف من الأشواك.
أخطر ما في الأوبئة ليس الموت الذي يصبح قريباً، وليس التأثيرات المتصلة بحياة الناس داخل
تختلف أشكال مواجهة المجتمعات الأوبئة والكوارث حسب نوعية هذه وطبيعة تلك. ويعدّ الحجْر الصحي من الإجراءات الضرورية للحدّ من تفشي وباء كورونا داخل المجتمع، وقد دخلت عشرات المجتمعات خلال الأسابيع الماضية في تطبيقه، ومنعت الأفراد من الخروج من بيوتهم إلا للضرورات. امتثل الجميع خوفاً من عدو غير مرئي، وخوفاً من العزل الصحي الذي يدخل المصابين بكوﭭﻳﺩ 19 إلى المستشفيات والمصحّات، في انتظار الدواء الذي يتواصل البحث عنه في أكثر من مختبر في العالم. يتم هذا فيما يرتفع عدد الضحايا في الدول المتقدمة والفقيرة.
ومؤكد أن الجوائح لا تخيف ولا تنشر الهلع فقط، كما أنها لا تقتل المئات يومياً فحسب، إنها
ليس الحجْر الصحي إجراءً حياتياً معتاداً. إنه يتم في زمن الأوبئة ليوقف نمطا من العادات والأعمال، وترتبط مقتضياته والنتائج التي يمكن أن تترتب عنه بنمط الإنتاج داخل مجتمعاتنا، الأمر الذي يترك آثاره في كل مرافق الحياة، كما يترك آثاره في النفسيات والسلوكات. وهو لا يؤدّي فقط إلى حرمان الأفراد من العادات التي ألفوها، بل إنه يتيح لهم، في الآن نفسه، وضعاً يُمَكِّنهم من العودة إلى ذواتهم، ومعاينة أشكالٍ من المعاناة والنظر في جوانب من حياتهم بعيون أخرى، حيث يمكن أن يستطيب الواحد منهم في قلب بيته مزايا عديدة وغير متوقعة. كما أن الشوارع والمدن المهجورة تتخذ صورا أخرى بدون حركة المارّة والسيارات، ومن دون مقاه ومطاعم وأصوات. صحيح أن الحجْر الصحي يرتبط بمسألة الوقاية والحد من تفشّي الوباء، ولكنه يمكن أن يستوعب كخلوة للاستماع إلى الذات، وكسر ما التصق بها من عادات وسلوكات.
توقظ الكوارث الطبيعية والأوبئة الروح الرواقية في الإنسان، فينبري بعضهم، تحت هول ما يسمع ويرى، ليقول إن ما يقع اليوم في عالمنا من جائحات مقدَّر ومكتوب، ولا مفر منه. ويتجه آخرون إلى ربط الأوبئة بسياقات وعوامل ذات صلة بالمجال الذي تنتمي إليه، فيتحول، في ضوء نمط من التعقل الموضوعي، إلى حدث مشروط بمواصفات محدَّدة. وخارج الموقفين السابقين، يمكن أن يُستحضر موقف ثالث يرتبط بعنوان هذه المقالة، الورود والأشواك.. ذلك أننا، في كل الأحوال، نحب الورود ونخاف من الأشواك.