لم يكن مفاجئاً إعلان الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، عن منبر الأمم المتحدة في 26 أيلول/سبتمبر، عن نيته الدعوة لإجراء انتخابات تشريعية، من ناحية أنها ليست المرة الأولى التي يعلن فيها عباس عن توجهه لإجراء انتخابات أو وعود أخرى مرتبطة بالعلاقة مع الاحتلال، لأن أياً منها لم ينفذ، ولكن المفاجأة هي توقيت إعلان الرئيس في ظل ظروف محلية وإقليمية ودولية لا تنسجم إطلاقاً مع إجراءات لا تمس الواقع الفلسطيني المعقد، ولا تساهم في إنقاذ الحالة الفلسطينية المأزومة، في ظل التغول الإسرائيلي على الأرض والإنسان في الضفة والقدس، ونهاية ما يسمى بحل الدولتين، وتآكل في المشروع الوطني القائم على تحقيق حلم الدولة الفلسطينية المستقلة، تبني السلطة الفلسطينية والرئيس عباس رؤيتها لإجراء انتخابات تشريعية، على تجديد الشرعية الفلسطينية وضخ دماء جديدة في المؤسسات السيادية، استعداداً لتحديات المرحلة والتصدي للمخاطر الوجودية التي تتربص بالقضية الفلسطينية، ولكن كيف للانتخابات التشريعية أن تحقق ذلك بمعزل عن الواقع الفلسطيني، وكيف من الممكن أن تغير من اتجاه البوصلة الإقليمية والدولية بحيث تعمل لصالح القضية الفلسطينية.
أولاً: الواقع الفلسطيني
بلا شك فإن الأزمة المزمنة التي تتصدر مصائب الشعب الفلسطيني وما زالت تتمثل في الانقسام الفلسطيني السياسي والجغرافي، وتشكل سلطتين متنافستين ترسختا مع مرور السنوات منذ العام 2007. بالتوازي يسير المخطط الاستيطاني في الضفة الغربية بخطى سريعة نحو تقطيع أوصال الضفة، وحشر الفلسطينيين في أضيق بقعة جغرافية ممكنة في مساحة لا تتجاوز 39% من المساحة الكلية للضفة الغربية، فقد وصل عدد المستوطنين في الضفة والقدس عام 2019 إلى حوالي 680 آلفا يتوزعون على حوالى 200 مستوطنة و220 بؤرة استيطانية "عشوائية"، مع قضم تدريجي لصلاحيات السلطة الفلسطينية السيادية، وإعادة صياغة دورها بما يخدم المصلحة الأمنية الإسرائيلية، وبما يستحيل معه إقامة كيان فلسطيني حقيقي يحقق آمال وتطلعات الشعب الفلسطيني، أما القدس بمقدساتها والتي من المفترض أن تكون عاصمة الدولة الفلسطينية، على مسافة بضع سنين من حسمها استيطانيا وديموغرافياً لصالح المشروع التوراتي الصهيوني، فقد وصل عدد المستوطنين عام 2019 إلى حوالى 225 ألف مستوطن، بينما يتوجس 120 ألف فلسطيني مقدسي من عزلهم عن المدينة بعد تشييد جدار الفصل العنصري والذي يترك أكثر من 8 قرى وبلدات فلسطينية مقدسية خلف الجدار، والأخطر هو تهويد وأسرلة المعالم التاريخية ذات الطابع العربي الاسلامي بإقامة الكنس والحدائق والمقابر التوراتية، ومخطط التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى والذي يقترب مع كل اقتحام وتدنيس للمستوطنين بعد أن بات طقساً شبه يومي.
هذا السياق العام المحبط للسلطة الفلسطينية، والمشجع على فرض المخطط التوراتي الاستيطاني في الضفة والقدس يأتي بمبادرة من حكومات ونخب سياسية إسرائيلية هي الأكثر تطرفاً في تاريخ الدولة العبرية، ولسوء الحظ فإن اليمين الديني، واليمين الصهيوني المتطرف الذي يتكئ على قاعدة شعبية لا تقل تطرفاً عن النخب التي تمثلها هو المرشح الاوفر حظاً في توجيه دفة الكيان على الأقل للسنوات القليلة القادمة.
أما واقع السلطة والفلسطينيين في الضفة الغربية فلا يتجاوز السياق العام الرديء للحالة الفلسطينية، بعد أن اكتفت السلطة بدورها الخدماتي البلدي، مع ضمور تدريجي ممنهج لصلاحياتها ومكتسباتها السيادية المحدودة التي نالتها بعد اتفاق أوسلو، واستمرت في نهج التنسيق الأمني ومحاربة المقاومة رغم تجاوز الإسرائيليين لاتفاق أوسلو كما المسافة بين الشرق والغرب، والاكتفاء ببعض أشكال المقاومة الشعبية الموسمية التي لا تقدم ولا تؤخر، وعلى الصعيد الشعبي حقق الاحتلال بفعل السلام الاقتصادي وبتشجيع من السلطة ربما الإنجاز الأكبر المتمثل بتغيير ثقافة المواطن الفلسطيني في الضفة؛ باختزال قيم الولاء، وخنق الروح الوطنية، وتسخيف معاني التضحية والفداء، من خلال الانفتاح الاقتصادي وضخ الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة، وإقامة مدن "السلام"، والتمويل الذي لا ينتهي من الاتحاد الأوروبي، والدول المقتدرة والتي تدور في الفلك الأميركي، وإفساح المجال لكل قادر على العمل للالتحاق بسوق العمل الإسرائيلي ومن ضمنها المستوطنات في الضفة الغربية نفسها.
أما على الجهة الأخرى من الوطن فيخضع قطاع غزة لحصار سياسي اقتصادي منذ العام 2007 بعد سيطرة حركة حماس على غزة، استنزف القدرات، وأرهق السكان، وعزل القطاع عن العالم، مع جولات من الحروب والعلميات العسكرية الإسرائيلية أضافت أشكالا أخرى من المعاناة، ولجأت القيادة السياسية والعسكرية لتحييد المقاومة في قطاع غزة لتشييد سلسلة من العوائق والجدران تحت وفوق الأرض حتى تحول القطاع لأكبر سجن للبشر في العالم.
ثانياً: الأوضاع الإقليمية
تراجع الحضور العربي الإسلامي خلال العقد الأخير المساند للقضية الفلسطينية لعدة عوامل متباينة، ولكن أبرزها اندلاع الموجة الأولى لثورات الربيع العربي عام 2011، وهو ما أفضى إلى فوضى داخلية وحروب أهلية بتدخلات خارجية استبيحت معها الأراضي العربية وتفككت معها جغرافيتها لصالح أعراق وإثنيات وطوائف كما في سورية واليمن وليبيا، بالإضافة للعراق الذي سبقها بحرب طائفية بعد الاحتلال الأميركي عام 2003، ما أفضى إلى دولة فاشلة تحكمها ميليشيا طائفية، بينما نجحت الثورة المضادة في تمكين انقلاب عسكري في أكبر دولة عربية ليغرقها في أزمة شرعية ومشاكل اقتصادية واجتماعية وسياسية لا تنتهي، بينما تعاظمت القبضة الأمنية وكل أشكال التنكيل والبطش لبعض الأنظمة الأخرى التي تترقب هواجس التغيير وانتفاضة الشعوب، كما في ثلاث دول في الخليج هي السعودية والامارات والبحرين، وهذا من ناحية، أما من ناحية أخرى، فإن أزمة الشرعية لدى النظام العربي بشكل عام سوغت لبعض الأنظمة التقرب من دولة الاحتلال ونسج علاقات سرية وعلنية، والتزلف أكثر إلى الادارة الأميركية والمسارعة إلى تنفيذ طلباتها، طبعاً كانت القضية الفلسطينية من أكثر ضحايا هذا الانبطاح العربي، حتى باتت هذه الأنظمة (السعودية، الامارات، البحرين) شريكاً أساسياً لدولة الاحتلال مع أميركا في فرض مخططات تصفية القضية الفلسطينية، والضغط على الشعب الفلسطيني اقتصادياً وسياسياً للتماهي مع هذه المخططات.
ثالثاً: الواقع الدولي
عانت القضية الفلسطينية خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانشقاق العالم العربي على خلفية اجتياح الكويت وحرب التحالف الدولي ضد العراق عام 1991، ولكن الحضور الدولي في الصراع وفي فضاء القضية الفلسطينية بشكل خاص انحسر تدريجياً، وفقد تأثيره بصورة شبه كاملة خلال العقد الأخير، الاتحاد الأوروبي اكتفى بدوره التكميلي للإدارة الأميركية بالمساهمة في تمويل السلطة الفلسطينية وبعض مشاريع البنية التحتية في المناطق الفلسطينية، بينما فضلت الدول الكبرى في شرق أسيا المعروفه بدعمها التاريخي للقضية الفلسطينية كالصين والهند الاقتراب أكثر من إسرائيل وإعطاء أولوية للمصالح على المبادئ، بينما دول أميركا اللاتينية والجنوبية المناصرة للحق الفلسطيني انزوت جانباً مع بعض الاستثناءات لمعالجة مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية، بينما الإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترامب أكثر انخراطاً في مشاريع اليمين الديني والعلماني المتطرف الصهيوني، وأكثر حماساً في السير قدماً في حسم المسألة الفلسطينية التاريخية لصالح إسرائيل، بمعنى أن السند الدولي التاريخي النسبي لصالح القضية الفلسطينية لم يعد قائماً، وأكثر من يمكن تقديمه بعض التعاطف، والمواقف الاعلامية التي تزداد صخباً في بعض الأحيان للرد على جرائم الاحتلال.
في ظل هذا الوضع الحرج الذي يعصف بالقضية الفلسطينية سواءً على الصعيد المحلي أو الدولي، والذي ربما يعد الأسوأ في تاريخ القضية الفلسطينية، كيف للانتخابات أن تساهم في إنقاذ الحالة الفلسطينية، وكيف من الممكن أن ترفع من مكانة السلطة إقليمياً ودولياً وتوفر لها أوراق قوة وهامش مناورة أكبر بحيث تستثمرها لصالح القضية الفلسطينية، وكيف للانتخابات أن تضع حداً لمخططات التهويد والاستيطان التي تتقدم بشكل متسارع في الضفة والقدس، وكيف لها أن تضع حداً للهجمة التوراتية التهويدية على المسجد الأقصى ومقدسات المسلمين والمسيحيين الأخرى، والأهم من ذلك ما مكانة الانتخابات في التصدي لمخططات تصفية القضية الفلسطينية فيما يعرف بمخطط صفقة القرن المشؤومة.
ما تتطلبه الحالة الفلسطينية المأزومة الراهنة، هو إعطاء الأولوية لإنهاء الانقسام المدمر وإعادة اللحمة بين جناحي الوطن على أساس من الشراكة الوطنية الحقيقية بعيداً عن الإقصاء والاستئثار، وإعادة بناء منظمة التحرير التي من المفترض أن تمثل الكل الفلسطيني على أسس جديدة تكفل تمثيل كافة أطياف الشعب الفلسطيني، والأهم من ذلك الاتفاق على استراتيجية وطنية جديدة جامعة تكفل الحد الأدنى من توافق الطيف الفلسطيني وقواه المقاومة على برنامج وطني جامع يضمن الحد الأدنى لمطالب وطموحات الشعب الفلسطيني على أساس ممارسة حقه في المقاومة، وانهاء الاحتلال وتحقيق حلم إقامة الدولة الفلسطينية العتيدة، والخروج من دائرة اتفاق أوسلو وتبعاته التي أرهقت الشعب الفلسطيني وقوضت طموحاته.