تتعدد وتختلف اسباب الهجرة الثقافية العربية الى فرنسا، لكنها، على العموم، يربطها خيط واحد وهو ان هذه الهجرة مدفوعة في صورة اساسية بالعلاقات الخاصة بين فرنسا والعالم العربي، وعلى وجه التحديد واجهته المتوسطية، من المغرب وتونس والجزائر وصولا الى مصر وسوريا ولبنان.
ثلاث حالات
إن أي كاتب عربي يكتب اليوم بالفرنسية او الانكليزية يسهم في تطوير تلك اللغة، ويشارك في إثراء الادب الفرنسي والانكليزي. ومن هنا يجري الحكم على الكتاب العرب الذين يكتبون بالفرنسية على انهم كتاب فرنسيون، والدليل ان جائزة "الغونكور"، وهي ارفع جائزة ادبية فرنسية مُنحت لكل من الطاهر بن جلون وامين معلوف للرواية وعبد اللطيف اللعبي للشعر، وهي لا تسند إلا للكتاب الفرنسيين، وقد حاز هؤلاء عليها لانهم يسهمون في تطوير الادب الفرنسي، رغم ان اسماءهم عربية وانهم من اصول عربية، ويجري النظر في فرنسا إلى ان هؤلاء يفكرون بالفرنسية ويكتبون بها ويطورون ويجددون ويثرون مخيلة هذه اللغة.
لكن مع ذلك من الضروري التوقف سريعا أمام معضلتين أساسيتين تواجهان الكاتب العربي حين يعبر عن نفسه بالفرنسية :الأولى هي الكتابة بلغة أخرى غير اللغة العربية الأم، فالفرنسية غير العربية، لناحية جماليات اللغة وشروطها. والمعضلة الثانية، هي التفكير وفق منهج مختلف عن الفرنسيين، انطلاقا من اعتبارات التاريخ والجوار والدين، وهذا الامر تتفاوت درجته بين كاتب وآخر.
انطلاقا من هاتين المعضلتين برزت جملة من الاشكاليات التي يمكن رصدها لدى غالبية الكتاب العرب الذين هاجروا إلى اللغة الفرنسية، وتختلف طبيعة هذه الاشكاليات وحدتها تبعا إلى سبب هذا الخيار، فهو لدى البعض طوعي وتم عن وعي ولأسباب ابداعية ووجدانية وجمالية، ولدى البعض الآخر قسري، أملته شروط تاريخية، وبين هذا وذاك هناك دوافع أخرى تتعلق بالوصول إلى العالمية والشهرة...إلخ. وهنا يجدر التوقف عند ثلاثة نماذج صريحة وواضحة.
اولاً: امين معلوف
سعى هذا الكاتب إلى معادلة توفيقية من اجل لقاء، انطلاقا من احترام موقع الآخر، وهذا اتجاه عام بدأه منذ كتابه النظري "الحروب الصليبية كما يراها العرب"، الذي كان بمثابة دعوة لقراءة الآخر لفهمه ومصالحته، بدل تأجيج حرب الحضارات والديانات. ثم جسدها في شخصية "ليون الافريقي"، الذي رمز فيه إلى الحوار والتفاعل الحضاري بين الشرق والغرب، من خلال شخصية الحسن بن محمد الزياتي الفاسي الشهير ب "حسن الوزان" أو "ليون الافريقي".
يختلف أمين معلوف، الكاتب اللبناني عن الكثيرين من أقرانه من الكتاب الفرانكفونيين الآخرين، من بلدان المغرب العربي ومن لبنان حتى. فهذا الكاتب، الذي بات عضوا في الاكاديمية الفرنسية، لم يكتف فقط بالتخييل بل تعداه إلى الكتابات الفكرية والتأملات، ومن هنا ظهر قبل أكثر من عقد كتابه اللافت: "الهويات القاتلة". وهو رد واع وذكي على كل الأطروحات التقسيمية، التي تريد فرض صراع الهويات والحضارات... وليس من شك أن الكثيرين رأوا فيه علاجا للكثير من الأمراض التي تهدد المجتمعات الديمقراطية. ولعل ما يثار في فرنسا، منذ سنوات، حول نقاشات الهوية الوطنية، يكشف ضحالة الواقع السياسي الفرنسي، مقارنة مع وعي الكاتب اللبناني.
أمين معلوف يقترح مراكمة الانتماءات والانفتاح على الآخر/الآخرين. وليس غريبا اختياره لشخصية ليون الإفريقي، الشخصية "الكوسموبولوتية" والباحثة عن التعدد. والكاتب، أي كاتب، لا يعرف متى يعود للحديث عن نفسه وجذوره، أو أنه يمارسها، بطريقة مواربة، وهنا يمكن الزعم أن كل كتابة تخييلية هي كتابة "أوتوبيوغرافية" بامتياز. ولعله عاد إلى أصوله وجذوره اللبنانية، في رواية "صخرة طانيوس"، وهي رواية عن المنفى، ومنحت صاحبها أرقى جائزة أدبية فرنسية "الغونكور" سنة 1993، لتكرسه ثاني كاتب عربي ينال هذه الجائزة الراقية بعد المغربي الطاهر بن جلون.
يحاول الكاتب أمين معلوف، جاهدا، بكل ما استطاع، وعبر أجناس كتابية متنوعة أن يدافع عن مثله الأعلى في الحياة، التسامح والتصالح مع الآخر المختلف، فهو القادم من بلد فسيفساء وبلد تعددية، يريد لهذه التعددية أن تنجح في غير ما مكان. وهو المولود في بلد يطل على بحر تقاسمته وتتقاسمه حضارات وثقافات مختلفة وأحيانا متصارعة، يريد تغليب حوار الثقافات وحوار الحضارات، على كل نزوع لنفي الآخر وسلبه حقه في الحياة وفي الاختلاف. من أجل الوصول إلى مصالحة .
ثانياً: الكتابة الجزائرية
يستخدم الكاتب الجزائري عبد الحميد بن هدوقة تعبيرا ذكيا عن العلاقة بين الجزائريين والفرنسيين، حيث يقول عاش الفرنسيون والجزائريون جنبا الى جنب ولكن كخطين متوازيين، وهو يعني بذلك حالة التوتر بسبب الاستعمار.
حالة التوتر عبرت عن نفسها على الدوام من خلال تعبير الكتاب الجزائريين بالفرنسية، وقد اعتبر الجميع ان اللجوء القسري للفرنسية معضلة كبيرة، ولكن نظراتهم اليها تفاوتت من العدائية إلى القبول بالأمر الواقع، وجاءت الكتابات الجزائرية الأولى معبرة عن هذه المعادلة، مثل رواية مولود فرعون "الأرض والدم"، ومولود معمري الذي صور في "الافيون والعصا" واقع الثورة الجزائرية والمواطن الجزائري على اختلاف مستوياته، ومن بعد مالك حداد الذي بقيت كتاباته وثيقة ثورية :"سأهبك غزالة"، و"لا احد ينتظر على رصيف الزهور". وكتعبير عميق عن الاشكالية فإن حداد نزع ،لاحقا، إلى رفض قاطع للفرنسية ، فلأنه لم يتعلم العربية فقد توقف عن الكتابة بعد استقلال الجزائر، كموقف من الاستمرار بالكتابة بلغة المستعمر. واعتبر حداد عدم القدرة على الكتابة بالعربية نقيصة، ورأى ان المستعمر الفرنسي هو الذي اراد ان يزرع هذا النقص ويمنعه من التعبير بالعربية، ولكن مواطنه الروائي محمد ديب نظر للأمر بشكل مختلف، فهو كان يرى في الفرنسية سلاحا للتعبير عن آلام الشعب وليس انتماء للثقافة الفرنسية، ولهذا فرغم انه كتب الثلاثية (البيت الكبير،الحريق،النول) بالفرنسية، فإن روحها ظلت عربية، بينما يرى آخرون ان اللغة الفرنسية ليست ملكا لأحد، بل ان أي لغة هي ملك لمن يسيطر عليها ويطوعها، فاللغة اداة تعبير لا اكثر، وهذا ينطبق على كاتب ياسين صاحب "نجمة" التي عدّها النقاد لحظة صدورها سنة 1965 أجمل نص بالفرنسية لكاتب غير اوروبي، رغم ان هذا الكاتب اعتبر اللغة الفرنسية "غنيمة حرب".
ثالثاً: الطاهر بن جلون
يصف بعض الكتاب المغاربة مواطنهم الكاتب بالفرنسية الطاهر بن جلون بأنه يقدم في كتاباته صورة عن العرب والمغرب العربي تعجب القارئ الغربي، قريبة من تلك الصورة النمطية التي رسمها بعض الكتاب الاوروبيين في القرن التاسع عشر، ويأخذون عليه انه من خلال بعض اعماله يتناول العالم العربي بطريقة فولكلورية إلى حد التماهي مع المخيال العام الغربي النمطي باستيهاماته و"كليشيهاته، ويتخذون من رواية "ليلة القدر" مثالا صريحا على ذلك.
في نفس السياق يصر بن جلون على أنه كاتب فرنسي، وليس كاتبا مغربيا. والسؤال هو لماذا يطرح بن جلون المعادلة على هذا النحو، رغم ان غالبية أعماله الروئية، كما في "ليلة القدر" و"أن ترحل"، "ذلك الغياب الباهر للضوء"، على سبيل المثال، هي روايات مغربية بامتياز، بموضوعاتها، وفضاءاتها، وشخصياتها، وفلكلورها بالشكل الذي حرص بن جلون على تقديمه بكل غرائبيته للقارئ الفرنسي. وفي بعض اعماله يتحدث بصراحة عن المغرب، وخصوصا رواية "العتمة الباهرة" التي جعل موضوعها مرحلة سياسية قريبة من تاريخ المغرب، وعلى العموم نحن لا نجد في روايات بن جلون لا تاريخ ولا جغرافيا فرنسيين، ولا نرى دما فرنسيا، ولا نشم رائحة فرنسية، ولا نتعرف على وجدان يمكن أن ننسبه لهذا البلد، كما لا نعثر على شخصيات تعكس نبض شارعه، وتجسد إيقاعه النفسي والاجتماعي، وإذا وجدت مثل هذه الشخصيات، فهي شخصيات فرنسية تعيش في المغرب سواء قبل الاستقلال، أو بعده.
من مآخذ الراحل محمد شكري على الطاهر بن جلون أنه حول بلده المغرب إلى فولكلور يتفرج عليه الغربيون، وخاصة الفرنسيين، على طريقة بعض المستشرقين.