05 يونيو 2017
النكبة والنقد الذاتي
لا يمكن التفاعل مع الواقع العربي المتردّي في شتى المجالات من دون تفعيل النقد الذاتي، إنْ كان المطلوب هو الانعتاق من هذا التردّي. منذ النكبة عام 1948، حين ضاعت فلسطين، مروراً بنكسة عام 1967، حين تمكّنت إسرائيل من احتلال باقي فلسطين، وأراضٍ عربية في سورية والأردن ومصر، وصولاً إلى زمننا هذا، يحاول كتابٌ عربٌ كثيرون أن يفهموا أسباب الهزيمة، ويوزّعوا المسؤوليات، فيجنح كثيرٌ منهم إلى ترديد كلام حول النقد الذاتي، لنتحمّل نحن المسؤولية عن هزيمتنا، ونبحث داخلنا عن المشكلة ونحلها. النقد الذاتي ضرورة، لكنّ فرقاً يمكن تلمسه بين النقد الذاتي والوصول إلى حد تبرئة العدو وداعميه من مسؤولياتهم، بل وتبنّي النظرة العنصرية تجاه الذات أحياناً. ينجرف بعض النقد الذاتي العربي إلى كراهيةٍ مفرطةٍ للذات المهزومة، لا تجد حلاً سوى الذوبان في الطرف المنتصر، وهي تصل إلى هذه النتيجة بسبب الانفعالية التي تطبع التحليل بطابعها، وهو غالباً تحليل "ثقافوي" لأسباب التردّي والهزيمة، لا يجد تفسيراً للواقع غير تخلّف ثقافةٍ وتقدّم أخرى.
يحيل النقد الثقافوي مظاهر التردّي إلى أسبابٍ ثقافية بشكل أساسي، تتعلق بالتراث وأنماط الحياة، وما يشكّل هوية الجماعة من روافد، فيما يتجاهل أو يُهمّش العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي يجري في إطارها تغيّر الثقافة والأفكار. نلحظ أن قسماً لا بأس به من النقد الذاتي لمجمل مظاهر التردّي العربي، لا تعالج قضايا مثل أنماط الإنتاج، والواقع الاقتصادي الاجتماعي، وبنية السلطة السياسية، وإنما تذهب إلى تحليل ثقافوي تبسيطي، من نوعية جمود "العقل" العربي، ضمن نظرة جوهرانيةٍ لا تاريخية، لا تعترف بالتغييرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
هكذا، يصبح فشل التحوّل الديمقراطي عائداً إلى طرائق تفكيرنا، وانتشار العنف السياسي مرتبطاً مركزياً بالتراث وبلاياه، والجمود الثقافي سبباً للنكبة المفضية إلى قيام الكيان الصهيوني، من دون اعتبارٍ للظروف الاقتصادية والسياسية. يشير الصديق ثائر ديب إلى نموذج النقد الثقافوي عند صادق جلال العظم في كتابه "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، إذْ يُعلِّل
العظم الهزيمة بوجود مجموعةٍ من العيوب التي تطبع سلوكنا وأنماط حياتنا. يتكرّر كلام العظم اليوم بأقلام عدد من الكتاب العرب، على شكل هجاء لثقافتنا وواقعنا، إذ يُفرغون غضبهم من هذا الواقع، أو يوضحون انحيازهم لثقافة المنتصر، باحتقار ثقافة الذات المهزومة، لكنهم لا يقدّمون تحليلاً ذا قيمة لأسباب التراجع والتردّي.
هناك أيضاً تحليلٌ من نوع آخر لأسباب التفوق الصهيوني والغربي، منها مثلاً أن إسرائيل ديمقراطيةٌ فيما دول العرب استبدادية، أو أن اسرائيل تكافح الفساد، وتحاسب مسؤوليها الفاسدين وتحاكمهم علانية، مثل محاكمة رئيس الوزراء الأسبق، إيهود أولمرت، فيما نحن متراجعون كثيراً في مكافحة الفساد. وهنا لا بد من توضيح الأمر، فمحاكمة أولمرت، وغيره من المسؤولين الحكوميين في الكيان الصهيوني، لا تعني أن هذا الكيان الغاصب يتمتع بمستوى عالٍ من الشفافية، فالقطاع العام فيه من الأكثر فساداً منذ عقدٍ، ومستوى الفساد مرتفع قياساً بدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، ووفقاً لتصنيف منظمة الشفافية الدولية، حلَّت إسرائيل في المركز 32 قبل عامين، فيما كانت دول عربية مثل قطر والإمارات متقدّمة عليها.
يحاول كتّابٌ، بحسن نية، استخدام نموذجٍ ما عند العدو لتحفيز دولنا على العمل، أو لنقد واقعنا الداخلي في الوطن العربي، لكن هذا الاستخدام ليس دقيقاً أولاً، كما هو الحال في مثال الفساد، ولا حتى في قضايا ديمقراطية الكيان المزعومة. وثانياً يتغافل بعضهم عن حقيقةٍ بسيطةٍ تتعلق بالتفوق الإسرائيلي، إذ مَرَدَّ هذا التفوق بشكل رئيس الدعم الغربي غير المحدود لهذا الكيان، وتقديم أحدث الأسلحة له في مقابل منعها عن العرب، وطبعاً لا يمكن تجاهل أخطاءٍ عربية في التنظيم العسكري واستثمار موارد القوة المتوفرة، لكن التفوق الصهيوني في معركةٍ لا علاقة له بمكافحة الفساد أو الحريات العامة، بل يرتبط أساساً بموازين القوة العسكرية، والدعم الغربي.
من المهم التذكير، في خضم تحليل أسباب النكبة وما تلاها، أن إسرائيل حالة استعمارية عنصرية، وقاعدة متقدمة للاستعمار الغربي في المنطقة العربية، وقوتها ليست ذاتية، فلا تنبع من إبداع معرفي صرف، أو نجاحات إدارية باهرة، بقدر ما هي انعكاس للقوة الغربية، والدعم الغربي الكبير لهذا الكيان في كل المجالات. مع ذلك، لا تبدو إسرائيل مخيفةً أيضاً، وهي تراجعت كثيراً، وتمكّنت حركات مقاومة عربية من ردعها وإلحاق الأذى بها، ولم تعد تلك القوة القاهرة كما كانت تقدم نفسها.
لابد من وضع الأمور في مكانها، فالحاجة إلى مكافحة الفساد قائمةٌ بذاتها، لحفظ المال العام، لكن ربطها بإسرائيل في غير محله، وفيه تجاهلٌ لأسباب التفوق الإسرائيلي الأساسية. لا يكفي بالطبع القول إن المشكلة في دعم الغرب الصهاينة، والنقد الذاتي ضروري بالفعل، ولأنه ضروري فإن تطويره ودفعه ليكون أكثر عمقاً مطلوب، إذ لا يتعلق النقد الذاتي بتفريغ شحنات غضب مثقفٍ على ثقافة مجتمعه، بل بدراسة مختلف العوامل المؤثرة في تردّي واقعنا، وما يمكن عمله لإصلاح الأخطاء.
يحيل النقد الثقافوي مظاهر التردّي إلى أسبابٍ ثقافية بشكل أساسي، تتعلق بالتراث وأنماط الحياة، وما يشكّل هوية الجماعة من روافد، فيما يتجاهل أو يُهمّش العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي يجري في إطارها تغيّر الثقافة والأفكار. نلحظ أن قسماً لا بأس به من النقد الذاتي لمجمل مظاهر التردّي العربي، لا تعالج قضايا مثل أنماط الإنتاج، والواقع الاقتصادي الاجتماعي، وبنية السلطة السياسية، وإنما تذهب إلى تحليل ثقافوي تبسيطي، من نوعية جمود "العقل" العربي، ضمن نظرة جوهرانيةٍ لا تاريخية، لا تعترف بالتغييرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
هكذا، يصبح فشل التحوّل الديمقراطي عائداً إلى طرائق تفكيرنا، وانتشار العنف السياسي مرتبطاً مركزياً بالتراث وبلاياه، والجمود الثقافي سبباً للنكبة المفضية إلى قيام الكيان الصهيوني، من دون اعتبارٍ للظروف الاقتصادية والسياسية. يشير الصديق ثائر ديب إلى نموذج النقد الثقافوي عند صادق جلال العظم في كتابه "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، إذْ يُعلِّل
هناك أيضاً تحليلٌ من نوع آخر لأسباب التفوق الصهيوني والغربي، منها مثلاً أن إسرائيل ديمقراطيةٌ فيما دول العرب استبدادية، أو أن اسرائيل تكافح الفساد، وتحاسب مسؤوليها الفاسدين وتحاكمهم علانية، مثل محاكمة رئيس الوزراء الأسبق، إيهود أولمرت، فيما نحن متراجعون كثيراً في مكافحة الفساد. وهنا لا بد من توضيح الأمر، فمحاكمة أولمرت، وغيره من المسؤولين الحكوميين في الكيان الصهيوني، لا تعني أن هذا الكيان الغاصب يتمتع بمستوى عالٍ من الشفافية، فالقطاع العام فيه من الأكثر فساداً منذ عقدٍ، ومستوى الفساد مرتفع قياساً بدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، ووفقاً لتصنيف منظمة الشفافية الدولية، حلَّت إسرائيل في المركز 32 قبل عامين، فيما كانت دول عربية مثل قطر والإمارات متقدّمة عليها.
يحاول كتّابٌ، بحسن نية، استخدام نموذجٍ ما عند العدو لتحفيز دولنا على العمل، أو لنقد واقعنا الداخلي في الوطن العربي، لكن هذا الاستخدام ليس دقيقاً أولاً، كما هو الحال في مثال الفساد، ولا حتى في قضايا ديمقراطية الكيان المزعومة. وثانياً يتغافل بعضهم عن حقيقةٍ بسيطةٍ تتعلق بالتفوق الإسرائيلي، إذ مَرَدَّ هذا التفوق بشكل رئيس الدعم الغربي غير المحدود لهذا الكيان، وتقديم أحدث الأسلحة له في مقابل منعها عن العرب، وطبعاً لا يمكن تجاهل أخطاءٍ عربية في التنظيم العسكري واستثمار موارد القوة المتوفرة، لكن التفوق الصهيوني في معركةٍ لا علاقة له بمكافحة الفساد أو الحريات العامة، بل يرتبط أساساً بموازين القوة العسكرية، والدعم الغربي.
من المهم التذكير، في خضم تحليل أسباب النكبة وما تلاها، أن إسرائيل حالة استعمارية عنصرية، وقاعدة متقدمة للاستعمار الغربي في المنطقة العربية، وقوتها ليست ذاتية، فلا تنبع من إبداع معرفي صرف، أو نجاحات إدارية باهرة، بقدر ما هي انعكاس للقوة الغربية، والدعم الغربي الكبير لهذا الكيان في كل المجالات. مع ذلك، لا تبدو إسرائيل مخيفةً أيضاً، وهي تراجعت كثيراً، وتمكّنت حركات مقاومة عربية من ردعها وإلحاق الأذى بها، ولم تعد تلك القوة القاهرة كما كانت تقدم نفسها.
لابد من وضع الأمور في مكانها، فالحاجة إلى مكافحة الفساد قائمةٌ بذاتها، لحفظ المال العام، لكن ربطها بإسرائيل في غير محله، وفيه تجاهلٌ لأسباب التفوق الإسرائيلي الأساسية. لا يكفي بالطبع القول إن المشكلة في دعم الغرب الصهاينة، والنقد الذاتي ضروري بالفعل، ولأنه ضروري فإن تطويره ودفعه ليكون أكثر عمقاً مطلوب، إذ لا يتعلق النقد الذاتي بتفريغ شحنات غضب مثقفٍ على ثقافة مجتمعه، بل بدراسة مختلف العوامل المؤثرة في تردّي واقعنا، وما يمكن عمله لإصلاح الأخطاء.