النكبة... السؤال الفلسطيني المستمر

15 مايو 2015

من مشاهد التهجير الفلسطيني في نكبة 1948 (Getty)

+ الخط -
لم تكن النكبة التي حلت بالفلسطينيين في عام 1948 مجرد خسارة معركة في حرب، أو حتى خسارة حرب تستدعي الاستسلام أمام محتل، مع الحفاظ على وجود المجتمع على أرض. فقد كان ما جرى على الأرض الفلسطينية من الاستثنائية، إلى درجة أن الثمن الذي دفعه الفلسطينيون، نتيجة خسارتهم الحرب، ليس احتلال أرضهم فحسب، بل تدمير مجتمعهم واقتلاعه وتهجيره إلى الشتات، وتحطيم جغرافيا الوجود المكاني والبشري لهذا الشعب. وبالتالي، دخل الشعب المشتت في عدة أقطار عربية بعد النكبة في ما يشبه الغياب، ليس عن الحضور في الخريطة السياسية في المنطقة فحسب، بل وعن صورته التي عرفها عن نفسه خلال تاريخه السابق أيضا، الذي قُطع بشكل حاد عن الاستمرار بالطريقة الطبيعية بفعل خارجي عن المجتمع نفسه. وبغياب الوطن الفلسطيني، لم يعد الشعب الفلسطيني منظوراً على الخريطة السياسية، وأصبح هناك قضية لشعب غائب تم اختصارها بمشكلة لاجئين، ينطق العرب الآخرون باسمها.
لم يصدق الفلسطينيون ما جرى، وبقوا غير قادرين على التصديق عقوداً، وهناك من لم يصدق إلى اليوم. واجه الفلسطينيون المشروع الصهيوني ذا الطبيعة غير المسبوقة، وهو السبب الرئيسي في هزيمتهم، في ظل تقاطع هذا المشروع مع المعطيات الدولية والإقليمية، وليس بسبب ضعف المجتمع الفلسطيني وهشاشته، كما ساد في بعض التحليلات. فهناك مجتمعاتٌ عديدة تعاني من هشاشةٍ، أكثر بما لا يقاس من المجتمع الفلسطيني، بقيت صامدة، وهي تعيش اليوم وستعيش إلى زمن طويل، ليس لأي سبب، بل فقط لأنها لم تتعرض إلى هجمة بشراسة وعنف وقوة الهجمة الصهيونية.
إن استنتاج ضعف المجتمع جراء وقوع الهزيمة هو استنتاج متسرع، وهو أيضاً لا يفسر عودة هذا المجتمع إلى بناء علاقاته في الشتات على النموذج القائم في القرى التي هُجر منها أصحابها، وهي علاقات حافظت، إلى حد كبير، على التماسك الاجتماعي الفلسطيني، وكانت الأساس الذي نمت في تفاعلاته التجربة الفلسطينية الحديثة على كل علاتها. ولأن المجتمعات المهددة تحتاج إلى ضمانات ما فوق اجتماعية غيبية، كالآلهة والأساطير، لتحافظ على نفسها متماسكة، فقد أعاد الفلسطينيون إنتاج وطنهم أسطورة مركزية في تجربتهم الحديثة، رداً على التهديد الذي عانوا منه طوال العقود الماضية. وكان المتخيل الجمعي الأساس المعبر عن علاقاتهم الاجتماعية التي أعادوا نسجها، بعيداً عن موقعها الطبيعي في الوطن المسلوب. وفي الوقت نفسه، هو الناظم المعياري لهذه العلاقات. وأصبح هذا المتخيل مجالاً لإعادة خلق الوطن وتأسيس علاقة بين تجمعات بشرية مشتتة، وبناء شعب فلسطينيي، متجاوزاً للجغرافيا، ومؤسساً على أسطورة الوطن السليب القابل للاستعادة. وبهذا المعنى، استطاع الشعب الفلسطيني إنتاج نفسه، بامتلاكه القدرة على إنتاج حقله المتخيل الخاص به، وإيجاد موقع له في تاريخ المنطقة. ولذلك، تظهر التجربة الفلسطينية باعتبارها تجربة صاغها الفلسطينيون عبر الزمان، لا عبر المكان، بإيجاد روابط عبر الزمن الماضي، وربطه في واقع الحال القائم، وإعادة إنتاج الهوية الشخصية والوطنية على هذا الرابط الزمني المُوحِد.

في مثل هذه الشروط المعقدة والقاسية، لم يكن غريبا أن تشكل هزيمة عام 1948 الحدث المؤسس للتجربة الفلسطينية الحديثة، فقد طبعت التاريخ الفلسطيني اللاحق، وستبقى تطبعه بطابعها إلى وقت طويل، فقد بقي البشر وغابت الأرض التي ابتلعها المشروع الصهيوني، من دون أن يقر الفلسطينيون بهذا الابتلاع، وما إن وقعت هذه الكارثة في حياة الفلسطينيين، ووجدوا أنفسهم في المنافي "حتى صار الفلسطينيون ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم البدائل الحية عن بلادهم"، حسب تعبير إلياس صنبر، لكنهم لم يستسلموا هناك، حيث أعادوا ترتيب علاقتهم، ليس بوطنهم وبلداتهم وقراهم فحسب، بل أعادوا ترتيب علاقاتهم مع بعضهم أيضا، وإذا كان هذا لم يظهر إلى حيز الوجود الفعلي، إلا بعد عقدين، إلا أنه بدأ مع إدراك الفلسطينيين أنهم باتوا يعيشون في المنافي، وأن المسألة ليست مسألة أيام. فلا شك أن النكبة التي حلت بالفلسطينيين في عام 1984، والصدمة التي أصابتهم من جراء تدمير مجتمعهم، وما تلا ذلك من تشريدهم، وإخراجهم من ديارهم، وانتشارهم في أرجاء المعمورة، ذلك كله عزز إدراك الفلسطينيين ذواتهم، وأوجد في ما بينهم رابطة نفسانية، وشعوراً قوياً بالهوية والوحدة وبالرعاية المتبادلة والمسؤولية بعضهم تجاه بعض. لقد راهنت الحركة الصهيونية على أن اقتلاع الفلسطينيين وإرسالهم إلى ما وراء حدود الدولة التي تريد أن تبنيها، يجعلهم، مع الوقت، يندمجون في البلدان التي استضافتهم، وتنحل هويتهم، ويكفون عن كونهم ينتمون إلى المكان الذي طردوا منه، وعلى القاعدة التي تقول "الكبار سيموتون والصغار سينسون". ولكن التجربة كانت على العكس من التوقعات الصهيونية، فلم يختفِ الفلسطينيون، ولم يندمجوا في البلدان المضيفة، وبدل أن تعمل النكبة على دفعهم إلى الدخول إلى مجتمعات أخرى تحجب هزيمتهم، أدمجوا هزيمتهم، وحولوها إلى مكوّن من مكونات هويتم التي استعادوا من خلالها، بعد عقدين من الهزيمة، وجودهم السياسي الذي يطالب بحقوقهم المشروعة في وطنهم. فقد حافظ الفلسطينيون على هويتهم، حتى في تلك الفترة التي دخلوا فيها في الغياب، فالهوية الفلسطينية لم تتلاش في أواخر الأربعينيات لتعود إلى الظهور في الستينيات مع تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية. فالذي عاد إلى الظهور، ممثلاً في منظمة التحرير، هو الحقل السياسي الوطني المرتبط دائماً بمشروع كياني، ويحتاج، في العادة، إلى إنتاج الوطنية، على حد تعبير جميل هلال.
واليوم، السؤال الغريب الذي يواجه الفلسطينيين الذين عادوا من محاولة الإلغاء الإسرائيلية، هل هم قادرون على تجاوز محاولة الإلغاء الذاتية القائمة اليوم؟ إن ذكرى النكبة تفرض السؤال على الجميع، قوى سياسية ومثقفين وناساً عاديين.

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.