صحيح أن تطوراً لافتاً طرأ على خطاب حركة "النهضة" الإسلامية التونسية، إلا أن الأسئلة "الوجودية" إزاء ماهية الحركة في علاقتها بالدولة المدنية، وأشكال التدين والتشدد والارتباط بمختلف الفصائل الإسلامية الاخرى ومشاريع الحركات الإسلامية داخلياً وخارجياً، ومدى ارتباطها بـ"مشروع الأمة"، لا تزال تلاحقها بقوة. وكثيراً ما تصل هذه الأسئلة إلى مجالات أخرى، أكثر خطورة، عندما تواجه الحركة اتهامات بالتّماس مع الحركات المتشددة والعنفية، ويُشار إلى سنوات الثورة الأولى عندما كانت في الحكم، وتُهم "التسامح مع الإرهاب" والإسهام في تهيئة مناخ تطور هذه المجموعات ونموها، وعدم التصدي لها كما ينبغي.
وعلى الرغم من أن قيادات "النهضة" كانت دائماً تردد أنها ضد "الإرهاب" ومع مدنية الدولة، وأن حكومتها كانت أول من صنّف تنظيم "أنصار الشريعة" كجماعة محظورة، فإن ذلك لم يمنع من توجيه الاتهامات لها، خصوصاً من قِبل الأحزاب اليسارية التي تعتبر "النهضة" مسؤولة عن اغتيال زعيمها شكري بلعيد، ومن بعده محمد البراهمي.
غير أن اللافت هو أن قيادات "النهضة" أصبحت في الآونة الأخيرة أكثر هدوءاً في مواجهة هذه الاتهامات، وأقل تشنجاً في الرد على الأسئلة التي تُطرح في هذا الشأن. هذا الأمر لوحظ بشكل لافت خلال ندوة ضمّت حوالي خمسين شخصية سياسية ومدنية وإعلامية تونسية، نظّمها "مركز دراسة الإسلام والديمقراطية" الذي أسسه رضوان المصمودي، وحضرتها "العربي الجديد".
ومع أن موضوع اللقاء الخاص كان يهم المجتمع المدني التونسي، فقد خرج النقاش عن إطاره إلى "قضايا الإرهاب" خصوصاً بعد عملية سوسة، وامتد كما كان منتظراً إلى موقف "النهضة" مما يجري، ووجّه عدد من الحاضرين أسئلة للحركة حول موقفها المركزي من هذه القضايا، وابتعادها نهائياً عن المشاريع التي تتقاطع مع الحركات المتشددة في إقامة دولة الخلافة المتعارضة مع الدولة المدنية، وتوضيح قراءتها للمنابع التي تنهل منها الحركات الإسلامية كلها.
اقرأ أيضاً: حكومة تونسية جديدة قريباً بتمثيل كامل لـ"النهضة"
الأمين العام للحركة علي العريض، الذي كان من ضيوف الجلسة، دعا إلى مقاربة موضوعية في تقييم الفترة التي كانت فيها "النهضة" ممسكة بالحكم، مشيراً إلى انها كانت الفترة التي سجلت أقل عدد من الضحايا، على الرغم من أنها شهدت اغتيالَين سياسيَين كبيرين (بلعيد والبراهمي)، مؤكداً أن الدولة حاولت التصدي "للمجموعات الإرهابية" حالما اتضح لها أنها اتخذت من العنف شعاراً ومنهجاً لها.
من جهته رأى عامر العريض، أحد أبرز قياديّي "النهضة"، أن هناك نوعاً من الإجحاف في تحميل الحركة المسؤولية واتهامها بـ"الإرهاب" الذي تمارسه بعض المجموعات المتشددة، لافتاً إلى أن أوروبا التي عانت من "التطرّف والإرهاب اليساري" لمجموعات مثل "بدرماينهوف" أو "أكسيون ديركت" أو "الألوية الحمراء" لم تُوجّه التهم إلى الأحزاب اليسارية والاشتراكية الأوروبية الأخرى، ولم تحمّلها مسؤولية الأعمال الإرهابية على الرغم من انتمائها للمدرسة الفكرية نفسها ونهلها من المنابع ذاتها.
ويتضح من خلال ما قاد إليه اللقاء، أن "النهضة" تظل مُلاحَقة بالأسئلة ذاتها، خصوصاً إبان اللحظات الصعبة التي تشهد فيها تونس "اعتداءات إرهابية"، وعلى الرغم من أن التونسيين لم يعودوا يوجّهون اتهامات بكثافة إلى "النهضة" مثلما كان عليه الأمر مع بداية الاعتداءات، فإن الحركة ستكون محتاجة إلى الفصل نهائياً، وبشكل لا يرقى إليه شك، في علاقتها بالدولة المدنية، وإيضاح خيارها تجاه ذلك، وحسمها نوعية علاقتها مع الحركات والمجموعات الإسلامية، ومع المشروع الإسلامي العام، في بداية تشكله وتحديد أهدافه، وخلال هذه الفترة التي تعرف تغيراً نوعياً لبعض هذه الحركات في علاقتها بالمشروع الديمقراطي عامة.
وعلى الرغم من أن قيادات "النهضة" وعلى رأسها رئيسها راشد الغنوشي، قد صرّحت أكثر من مرة أنها تنتصر للدولة المدنية وللفكرة الديمقراطية، وتتبنى دستور الجمهورية الثانية، ولا تعارض قوانين الأحوال الشخصية التي تضمن حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل، لاحظ متابعون كثيرون أن ما تدعو إليه بعض القيادات لا يحظى بإجماع داخل "النهضة" لدى بعض القيادات الأخرى، وخصوصاً عند جزء كبير من القواعد، وهو ما يستدعي حسماً فكرياً وخياراً سياسياً واضحاً. وستكون "النهضة" في مؤتمرها المقبل أمام تحدي الفصل في هذه المسائل، وخصوصاً العلاقة بين الدَعٓوي والسياسي، وعلى الرغم من أن هذا الأمر لم يُحسم بشكل واضح داخل الحركة وهناك تياران مختلفان حوله، فإنه قد يقود إلى توضيح منهجها أمام التونسيين بشكل قد يزيح بعض هذا اللبس والغموض.
اقرأ أيضاً: الغنوشي: قوى عالمية لا تريد نجاح ديمقراطية تونس