يؤكد استمرار التصعيد العسكري من قبل النظام السوري وروسيا، أن هوّة الخلافات بين أنقرة وموسكو حيال مجمل الأوضاع في شمال غربي سورية لم تردم، وأن قوات النظام ماضية في سياسة قضم المزيد من مناطق المعارضة في عمق محافظة إدلب، على الرغم من التحرك التركي لتسريع خطوات فتح الطريق الدولية بين الشمال السوري والساحل.
وفي مؤشر واضح على عمق الخلاف التركي الروسي، ارتكب الطيران الحربي التابع للنظام مجزرة في مدينة معرة النعمان، حصدت أرواح عدد من الأطفال، ودفعت أغلب سكانها إلى النزوح، خصوصاً أنها تزامنت مع تقدّم برّي لقوات النظام في ريف المدينة التي يخشى أهلها من مصير مشابه لمصير مدينة خان شيخون المجاورة، فيما بدأت ترتفع أصوات تحذّر من كارثة إنسانية في شمال غربي البلاد.
واستهدفت طائرات روسية، أمس الخميس، أطراف مدينة إدلب، مركز المحافظة التي تحمل الاسم ذاته، بصواريخ شديدة الانفجار، بعد هجوم مماثل من الطيران الحربي الروسي، فجر أمس، على قرية معرشمشة وقرية التح في ريف إدلب الجنوبي، أودى بحياة ستة أشخاص، بينهم نساء وأطفال.
كما جددت طائرات النظام المروحية استهداف أحياء التمانعة بالبراميل المتفجرة، بعد قصف مماثل استهدف بلدتي الغدفة وتلمنس. كما عادت لاستهداف أحياء في معرة النعمان بعد المجزرة التي ارتكبتها فيها، ليل الأربعاء، والتي أدت إلى مقتل 14 شخصاً، بينهم ستة أطفال وسيدتان، كما أصيب نحو 34 آخرون، وذلك جراء قصف بنحو ثمانية صواريخ على الأحياء السكنية، وفق الدفاع المدني السوري التابع للمعارضة.
وبقيت مدينة معرة النعمان، أبرز مدن ريف إدلب الجنوبي، أمس، تحت وطأة مجزرة الأربعاء، بحسب الناشط الإعلامي محمد كركص، الذي أشار في تصريح لـ"العربي الجديد" إلى أن أغلب سكانها المقدر عددهم بعشرات الآلاف "نزحوا باتجاه الشمال، خشية ارتكاب الطيران الروسي ومقاتلات النظام المزيد من المجازر والجرائم بحقهم، في ظلّ وجود مخاوف حقيقية من تقدم قوات النظام باتجاه المدينة خلال الأيام المقبلة". ولفت كركص إلى أن قوات النظام باتت على بعد نحو 17 كيلومتراً عن مدينة معرة النعمان، إذ تتقدم في ريفها الشرقي، مشيراً إلى أن أبناء المنطقة "يقاومونها فيما تتقدم تحت غطاءٍ ناري روسي غير مسبوق".
وتتعرض معرة النعمان التي تبعد عن مدينة إدلب نحو 40 كيلومتراً، منذ بداية حملة النظام في أواخر إبريل/نيسان الماضي، لقصف جوي بشكل شبه يومي حصد العشرات من المدنيين، خصوصاً أن المدينة تضم عشرات آلاف النازحين من مناطق سورية مختلفة.
ميدانياً أيضاً، سيطرت قوات النظام مدعومة بالمليشيات، مساء أول من أمس الأربعاء، على بلدة الخوين الواقعة شرقي التمانعة بريف إدلب الجنوبي، في مؤشر واضح على نيّتها المضي في سياسة قضم المزيد من مناطق فصائل المعارضة في شمال غربي سورية. وأكدت مصادر محلية أن قوات النظام حاصرت بلدة التمانعة الاستراتيجية في ريف إدلب الجنوبي من الجهة الشرقية، مشيرة إلى أن هذه القوات سيطرت على المزارع الواقعة بين منطقتي تل مرق والخوين، بالقرب من البلدة، التي يسعى النظام إلى تطويقها تمهيداً للسيطرة عليها، في تكرار لسيناريو مدينة خان شيخون منذ أيام.
وفي السياق، دعا الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية العالم إلى "التحرك لوقف الكارثة التي جرّها النظام وحلفاؤه على السوريين". وجدد الائتلاف، في بيان، تأكيده "أن الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، وعلى رأسه مجموعة الدول الفاعلة، قادرون ومطالبون بوقف الهجمات والجرائم بشكل فوري"، معتبراً أن "المواقف اللامسؤولة لتلك الدول ساهمت في تعقيد الأوضاع، ما يحمّلها مسؤولية مضاعفة، ويفرض عليها التدخل لوقف المجازر المستمرة، والقيام بتحرك دولي يضمن حرية السوريين وحماية المدنيين".
في غضون ذلك، بدا أن الجانب التركي يسعى إلى إيقاف تصعيد وتقدّم قوات النظام من خلال تسريع خطوات فتح الطريق الدولية التي تربط مدينة حلب، كبرى مدن الشمال السوري، بالساحل السوري.
وأعلن فصيل "فيلق الشام"، المقرب من الأتراك والمنضوي في "الجبهة الوطنية للتحرير" التي تضم أغلب فصائل المعارضة في محافظة إدلب، أن تركيا تعتزم إقامة نقاط مراقبة جديدة على أوتوستراد حلب - اللاذقية في محافظة إدلب.
وذكرت شبكة "المحرر الإعلامية "التابعة لـ"فيلق الشام" عبر موقعها نقلاً عن مصدر عسكري قوله إن القوات التركية تنوي إنشاء عدد من نقاط المراقبة العسكرية الجديدة لـ"تثبيت وجودها، ومنع تقدم قوات النظام السوري في المنطقة، ودعماً للحل السياسي وتسريعه".
كما أفادت شبكة "بلدي نيوز" الإخبارية المعارضة بأن القوات التركية تنوي إنشاء نقاط مراقبة جديدة لها في المنطقة يعتقد أن عددها سيكون أربعا: واحدة بالقرب من مدينة سراقب، وأخرى بالقرب من مدينة أريحا (معمل القرميد)، إضافة إلى نقطة قرب بلدة محمبل، وأخرى في جسر الشغور.
وتسيطر المعارضة السورية على أوتوستراد حلب ـ اللاذقية من منطقة الراشدين في ريف حلب الغربي، والتي تعتبر منطقة اشتباك، مروراً بمدينتي سراقب وأريحا ثمّ ريف جسر الشغور في ريف إدلب، إلى ريف اللاذقية الشمالي عند منطقة الناجية. ولطالما كانت مسألة استئناف النقل على الطرق الدولية ذريعة للروس والنظام للفتك بالمدنيين في شمال غربي البلاد لإخضاع فصائل المعارضة السورية.
ولم تعد خافية الخلافات الجوهرية بين الطرفين التركي والروسي حيال مجمل الأوضاع في شمال غربي سورية، والتي لم يتمكنا بعد من حلها، بحسب ما تؤكد الوقائع الميدانية. وفي تقرير لها أمس الخميس، قالت وكالة "الأناضول" التركية إن "روسيا تواصل دعم مساعي نظام بشار الأسد للسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من مناطق خفض التصعيد في سورية، المُعلن عنها مسبقاً بموجب اتفاق أبرم في سبتمبر/أيلول 2017، بين تركيا وروسيا وإيران". وأضافت الوكالة أن "روسيا، ورغم كونها طرفاً في الاتفاق، لم تضغط على حليفها النظام السوري لوقف اعتداءاته، بل على العكس توفر له غطاء جوياً، كما فعلت كثيراً خلال الاشتباكات الدائرة في أرجاء سورية". وأشارت إلى أن الدعم الروسي لقوات الأسد "غير مسبوق، من حيث ضخامته، في المعارك الدائرة بمناطق خفض التصعيد في إدلب"، مؤكدة وجود "حوالي 65 مقاتلاً روسياً في الاشتباكات الجارية بريف حماة، أغلبهم من العسكريين المتعاقدين مع شركات عسكرية خاصة". كما أكدت الوكالة التركية وجود "قرابة 170 عسكرياً تابعين للقوات الروسية الخاصة ولشركات عسكرية خاصة، في مناطق جبلي التركمان والأكراد، وكسب وسلمى بريف محافظة اللاذقية".
على الصعيد الإنساني، وثّقت "وحدة تنسيق الدعم" التابعة للائتلاف الوطني السوري النتائج المأساوية للأعمال العسكرية من قبل قوات النظام والجانب الروسي، منذ مطلع مارس/آذار الماضي وحتى 24 أغسطس/آب الحالي. وبحسب البيانات التي تمّ جمعها من قبل شبكة باحثي "إدارة المعلومات" في الوحدة، فقد تمّ استهداف 142 منشأة حيوية بالقصف، كما قتل 1166 من المدنيين نتيجة عمليات القصف، بينهم 262 طفلاً و180 امرأة. وبيّنت الوحدة نزوح ما يقارب 551976 مدنياً نتيجة العمليات العسكرية، استقرّ 36 في المائة منهم (200572 نازحا) ضمن أماكن مستأجرة، و17 في المائة وصلوا إلى مخيمات الشمال السوري، واستقرّ 13 في المائة في العراء وضمن مخيمات عشوائية.
ودعت الوحدة الجهات المعنية بالشأن السوري إلى "اتخاذ خطوات حقيقية توقف تقدم النظام وحلفائه في محافظة إدلب، وتضع حداً للمجازر اليومية المرتكبة بحق المدنيين"، محذرة من أن سيطرة النظام على محافظة إدلب سيحول نحو ثلاثة ملايين ونصف المليون إلى لاجئين في دول الجوار وأوروبا.
وفي السياق، أطلق "فريق منسقو الاستجابة شمال سورية"، أمس الخميس، "صرخة" لوقف القتل والتشريد في محافظة إدلب تحت عنوان "كفى قتلاً وتشريداً لأهالي محافظة إدلب". واعتبر الفريق الذي يضم ناشطين من مختلف المجالات، في بيان، الغارات والهجمات المتواصلة التي تقوم بها قوات النظام وروسيا وإيران على مناطق شمال غربي سورية "جريمة (إبادة جماعية) تصنف كجرائم ضد الإنسانية".
وقال الفريق إن "استهداف المدنيين يشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الإنساني الدولي وجريمة حرب متكاملة الأركان"، مستنكراً "الصمت الرهيب للمنظمات الدولية والدول الأوروبية التي تدّعي وقوفها إلى جانب الشعب السوري إزاء تلك الجرائم البشعة التي تحصل في محافظة إدلب"، وفق البيان. وأكد أن منطقة شمال غربي سورية "غير قادرة على استيعاب موجات النزوح المستمرة"، مطالباً بـ"وقف العمليات العسكرية من قبل قوات النظام وروسيا".