النظام السوري وإدارة القمع الإعلامي

12 نوفمبر 2016
(تصوير: كيم بدوي)
+ الخط -

لم يعد بشار الأسد يخشى من الظهور في مقابلات مع صحافيين أجانب، على العكس تمامًا، يبدو القيام بذلك، وفق شروطه، سمة المرحلة الحالية من عمر الحرب الإعلامية التي يسعى النظام من خلالها إلى تكريس انتهاء الثورة.

أما ما يجري حالياً من وجهة نظره، فهو قتال بين نظام يحمي الشعب الذي في كنفهِ، وجماعات متطرفة إرهابية ترغب في إقامة دولة إسلامية، وأصبحت مفردات النظام في تعريف الثورة هي المستخدمة في الإعلام الغربي (حرب أهلية وجيش سوري ممانع ضد الإرهاب).

آخر تجليات السياسة الجديدة كانت عندما عُقد في دمشق، أخيرًا، مؤتمر بعنوان "تداعيات الحرب الأهلية" بحضور شخصيات بارزة من المجتمع البريطاني وصحافيين ومراسلين لأكبر الصحف العالمية، مثل نيويورك تايمز وتيليغراف وصنداي تايمز والقناة البريطانية الرابعة وABC نيوز. المؤتمر حمل سمة عامة جاءت على لسان الأسد في إجابته على أحد الأسئلة "لا يوجد أي معارضة، أنا أحارب إرهابيين".

هذا النشاط ما كان النظام ليسمح بحدوثه عندما كانت المظاهرات السلمية تملأ ساحات وشوارع دمشق، ولكن المعطيات الآن تغيرت، وأصبحت الرياح تجري في فلك النظام، بفضل التقدم العسكري الذي أحرزه في مناطق مختلفة في الداخل بفضل الدعم العسكري الروسي المباشر، وسياسة الأرض المحروقة التي نفذها في شمال البلاد، وعمليات المصالحة التي أفرغت المناطق المعارضة من سكانها الذين باتوا متمركزين في مدينة إدلب شمال البلاد.

المؤتمر الذي وصفته صحيفة الغارديان بـ "المؤتمر الدعائي"، حضرته شخصيات بارزة في النظام السوري، كمستشارة الأسد بثينة شعبان، ووزير المصالحة الوطنية علي حيدر، ووزير الخارجية وليد المعلم، وبعض رجال الأعمال السوريين، إضافة لبشار الأسد كلاعب أساسي، في تغييب كامل لشخصيات سياسية من المعارضة الداخلية التي يعترف بها النظام شكليًا كديكور ديمقراطي إضافي يزين بها مكانته الدولية.

خلال السنوات الخمس الماضية، كانت الرسائل الدعائية التي تأتي على لسان النظام السوري ورموزه موجهة عبر خطاب أحادي الجانب إلى السوريين في الداخل، سخّر خلالها النظام ماكينته الإعلامية بكل طاقاتها كي تقنع السوريين بأنه أفضل من المعارضة السورية "الإرهابية"، لينجح لاحقًا في تقديم "داعش" وجبهة النصرة كنموذج عن المعارضة، بعدما أفرغ البلد من القوى السياسية والناشطين السلميين، وأرهب الكتلة الصامتة، بنفس مصير من عارضه في بقية المدن والأرياف التي حوصرت وسويت بالأرض.

عملية النظام السوري في إدارة وقمع الثورة بقوة السلاح بدايةً، ثم سعيه للسيطرة على مظاهر الحرب والفوضى في دمشق والمدن الكبرى، وتصديرها للعالم على أنها حرب أهلية أو حرب ضد الإرهاب، استغرقت ما يقارب الخمس سنوات، قام خلالها بعمليات غسيل أدمغة ناجحة، متكئًا على استراتيجية حزب البعث التي تقول "استمر بالكذب حتى تصدق نفسك"، وعلى تدني الأوضاع الاقتصادية وافتقاد عنصر الأمان، والنزوح الداخلي نحو أماكن عمل مؤسسات الدولة ثانيًا؛ ما زاد من قدرته على السيطرة على مواليه وزيادة شعبيته في الأوساط الرمادية التي لا حول لها ولا قوة بعد أن أرهقتها سنوات الحرب على مبدأ "الله يفرج".

خلال هذه السنوات، لم تكن تصل إلى العالم الغربي من مناطق سيطرة النظام إلا الصور البرّاقة التي يريد إيصالها، عبر خطة إعلامية محكمة أدارتها المستشارة الإعلامية للقصر الجمهوري لونا الشبل.

وساعدت على إتمامها شلّة من الصحافيين اللبنانيين وبعض القنوات "الوطنية الممانِعة"، وجمهور موالٍ يعيش بأمان في ظل النظام. هكذا، تحوّل الأخير من قامع للحريات إلى "محارب الإرهاب الأول"، واضعًا السوريين والعالم بين خياري البعث أو الإرهاب، ويذكر هنا فيديوهات وزارة السياحة حول الحياة الليلية في البلاد، وأفلام وثائقية عالمية تدور في نفس الإطار، مثل الفيلم الذي أعده كبير مراسلي "بي بي سي" في "الشرق الأوسط" جيريمي بوين في أيلول/سبتمبر 2015.

في السياق، كان لضعف وتشتت المعارضة الخارجية وارتهانها للخارج، الدور الأكبر في مساعدة النظام على تنفيذ أجندته، فضلًا عن سماحه بوجود معارضة داخلية شكلية تعمل ضمن خطوطه الحمراء، وبعض الفصائل العسكرية المتطرفة ذات النفس الطائفي، لتكتمل صورة المعارضة التي أرادها النظام.

بعد إتمام النظام المرحلة الأولى من خطته، وتصدير صورته كمحارب منتصر على الإرهاب، أعلن أخيرًا انفتاحه على الغرب ودعوته إلى التفاوض والعمل معه بشكل صريح، كما أصبح الأسد جاهزًا للإجابة على الأسئلة المحرجة التي تتهمه بالإجرام أو اللاإنسانية، وهو ما بدا واضحًا عندما سألته صحافية من "الإندبندنت" البريطانية: "هل تستطيع أن تنام والقتل مستمر في حلب؟" ليجيبها ضاحكًا بأنه فهم مغزى سؤالها، وأنه ينام ويستيقظ ويعمل ويمارس الرياضة، مضيًا على غرار ما قاله وليد جنبلاط في إحدى مقابلاته بعد انتهاء حرب لبنان: "لا يوجد حرب نظيفة، بالتأكيد سيموت الكثير من الأبرياء".

التقارير التي انتشرت لاحقًا من الصحافيين الذين حضروا المؤتمر، جاءت على شاكلتين، الأولى تتحدث عن استمرار النظام في الكذب بطريقة أكثر احترافية وثقة بالنفس ولامبالاة لكل القتل الذي تم توثيقه، والثانية تتحدث عن أسواق دمشق المزدحمة، وعن مدى تحرر النظام الذي يسمح ببيع الكحول في الأسواق ويسمح للمرأة بقيادة السيارات.

كقارئ، لم أمنع نفسي من الضحك على سطحية المواضيع التي استثارت الصحافيين، وكأن الثورة التي حدثت عام 2011 كان هدفها السماح ببيع الكحول أو المطالبة بافتتاح مطاعم وبارات جديدة، وليس المطالبة بإطلاق الحريات والديمقراطية.

تسخيف الثورة السورية ومأساة الحرب بهذه الطريقة لم يأت بين ليلة وضحاها، فالقتل العبثي أصبح روتينًا يوميًا على المحطات الإخبارية ولم يعد حدثًا مهمًا أو قصة إخبارية تجلب المجد والشهرة للكاتب الذي يرغب بتحقيق خبطة صحافية.

في ظل كثافة الأخبار المتشابهة التي تأتي من سورية، يصبح الحديث عن الحياة في ظل الحرب أفضل من الحديث عن الحرب نفسها أو أسبابها، وتصبح الثورة السورية التي طالبت منذ البداية بالتغيير الديمقراطي وحكم القانون وفصل السلطات وحرية التعبير السياسي والمشاركة بصنع القرار، ذكرى جميلة من الماضي.

المساهمون