يحمل ديوان شمس الدين التبريزي، ثلاثة أسماء، فهو يسمى "ديوان شمس الدين التبريزي" ويسمى أيضا "ديوان العشق"، ويطلق عليه ثالثا "الديوان الكبير".
ولهذه التجربة الشعرية الصوفية قصة، فقد كان في إمكان مولانا جلال الدين الرومي أن يصوغ تلك التجربة "العاطفية"، التي مر بها في علاقته بتلميذه شمس الدين التبريزي في إطار نظري شامل يخفي به عناوين مسار تجربة قلبية عرفانية، لكنه اختار، أو أن قوة ما مر به، تدفقت خارج كل مجرى وضد كل حدود.
وفي هذا الديوان، متعدد الاسم، نكتشف مدى ما يمكن أن يصله إليه الإنسان في أسمى عاطفته، وهل يملك القدرة على كسر الحدود واختراق الآفاق حتى يتسنى له النظر من وراء حجاب، أم أن مدى ما يمكن أن يصب له لا يستطيع أن يترجمه حتى ولو كان شعرا وقبسا من كلام.
إن الإمعان في القول على مدى ستين ألف بيت من الشعر، يعكس أحد حدين: الحد الأول عمق التجربة القلبية التي مر بها الشيخ العارف مولانا جلال الدين الرومي، سواء كان الأمر يتعلق بحادثة "عشق" حقيقية جرت في الزمان وفي المكان، أم كانت تلك التجربة، عرفانية وروحانية بامتياز، فديدن الصوفي ألا يتكلم إلا رمزا، ولا يرى إلا إشارة، فالرمز والإشارة من أسرار براعته، وهي لغته الفضلى المشفرة التي جهد في بنائها، على مدى عقود من تجارب المتصوفة العرب والمسلمين، وهذا النسق أصبح لوغاريتمات ورياضيات للروح وامتحاناً للعقل لتخطي ما وراء الحدود.
الحد الثاني، أنه لولا الزلزال العميق لتلك التجربة، لما احتاج فيها مولانا جلال الدين الرومي إلى كل هذا التطويل. ولو نظرنا إلى ذلك بحساب الزمن، لقلنا بلغة العصر، أن تلك الدفقات العميقة كتبت على مسافة زمنية استغرقت ربما سنوات، وظلت جذوة تلك التجربة بنفس الوهج، وربما رافقت صاحبها إلى مثواه الأخير.
ولم يكن لهذا الكتاب الشعري الاستمرار في الزمن، لولا أنه يحتفظ في جوهره العميق بكل أسس الديمومة وحجر البقاء الصلب. لذلك فقد امتد من يد إلى يد ومن لغة إلى أخرى، ورحل من الفارسية إلى العربية وإلى لغات اليوم، واصطبغ بها وبروحها، وكلما تعددت ترجماته ازداد بريقا ووهجا مثل الماسة في قاع البحر.
ومن هنا، أقدر المحاولات المضنية، التي قام بها العدد الوفير من عشاق مولانا جلال الدين الرومي ومن الشراح والنقاد ومتتبعي مسارات التصوف ومن البحاثة الغربيين، الذين جددوا الشغف به لدى القارئ العربي، وصارت تلك النصوص علامة مضيئة ومساحة منيرة في الثقافة العربية الإسلامية، تؤكد على أن العرب والمسلمين أهل محبة وصفاء، وأن حالات السواد التي عاشوها ويعيشونها، ليست إلا خروجا عن مسطور الكتاب المبين ومدلوله العميق، الذي أدركه الصوفي في لحظة قراءة عميقة مبنية على المحبة والرحمانية.
فالنص الصوفي، هو نص يقول ولا يقول، لا يمكن أبدا أخذه على محمل الظاهر، ولا قراءته مثلما تقرأ النصوص العادية والمألوفة، ذلك أن مرماه وهدفه أن يبلغ إلى الروح ويخاطب العقل ويتلبس بالحواس ويقرب التجربة الصوفية، التي هي تجربة في العرفان من الإنسان، والارتقاء به من حال النص إلى حال الكمال.
وفي هذا يرى الدسوقي شتا، في مقدمة كتاب "المثنوي"، لمولانا جلال الدين الرومي، أن الأزمنة كلها من ماضٍ وحاضر ومستقبل، كلها تمتزج عند الصوفي، فيكون ابن وقته، ثم يتجاوزها ليصير أبا وقته "أي مسيطرا كل السيطرة على كل أحواله ووارداته، فهو ليس عبدا لأي شيء، وليس ابنا لأي شيء".
المعرفة القلبية هي مدخل الصوفي إلى عالم العرفان، والقاعدة بسيطة للغاية، كما يصوغها مولانا جلال الدين الرومي، وهي كالتالي: "عندما تحس بالبسيط في قلبك قم بري هذا البسيط، سوف ينبت ثمارا، هب هذه الثمار إذناً للأصدقاء، وحذار من التفرقة بين البشر، فإن اختلاف القبلة من اختلاف وجهات النظر، واختلاف الدراويش الأربعة من اختلاف لغاتهم، وإلا فإنهم جميعا كانوا يرغبون في شراء العنب، ولو أن كل واحد منهم كان يعرف لغة الآخر لما تشاجروا".
الصوفي يترحل عبر العالم، ويقرأ في كتاب الوجود الكبير. إن رجل المقام لا يقيم في مكان محدد الأعيان، بل إن الترحل الواقعي وتجريب الآفاق الجديدة، والخروج من مكان، والدخول إلى مكان جديد، حتى يصطاد الحقيقة في طريق أو في غابة أو على ظهر سفينة أو في صحراء أو بين مفاصل وادٍ، أو تحت جناحي طائر.
يقول مولانا، جلال الدين الرومي: "يا من قامرت بنفسك في النزال، إنك لم تميز بين الآخرين وبين نفسك. إنك تقف أمام كل صورة تصل إليها قائلا: هذه أنا، والله إنها ليست أنت. وإنك إن بقيت لحظة واحدة بعيدا عن الخلق، تبقَ في حزن وفي قلق حتى الحلق، وهذا هو أنت، فمتى تكون ذلك الأحد، وأنت جميل بنفسك ثمل بنفسك حلو بنفسك. أنت طائر نفسك وفخ نفسك وأرض نفسك وسماء نفسك".
المعرفة الصوفية، تؤخذ بالتدرج وبإعمال التجربة في مختبر الروح، ومن ذلك"إن رأيت صورة في قاع النهر، فإن تلك الصورة تكون انعكاسا لشيء في الخارج أيها الفتى. لكن هذا يحدث عندما ينقى الماء من القذى، فالتنقية شرط لهذا الأمر في نهر البدن. ومن ثم فإن الرحمة الإلهية لا تنقطع عن البشر. ومن ثم، ففي كل دور ولي قائم.. والتجربة قائمة حتى يوم القيامة"، وهذا
يعني حسب ما يذهب إليه مولانا جلال الدين الرومي أن التجربة هي عماد كل معرفة صوفية، لا تتحقق إلا بها.
لا بد هنا، من الأخذ بالحسبان أن التجربة الصوفية قائمة في المقام الأول والأخير على "الذوق"، وهو البوابة التي يعبر منها المريد الذي يسعى إلى المعرفة القلبية، ويتدرج بعدها، حتى يصل إلى مقام الوصول.
يسرد مولانا جلال الدين الرومي في كتاب "المثنوي" حكاية ذلك العاشق الذي هرب من العسس في حديقة مجهولة، فوجد المحبوب نفسه في الحديقة، فأخذ من فرحته يدعو للعسس بالخير ويقول "عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم".
ومولانا جلال الذين الرومي يؤكد أن طريق التصوف طريق شاق، وعلى داخله أن يتحلى بالصبر، وهو يفسر الأمر على هذا النحو، حين يقول "إن العاشق لكل عمل ولكل مجال، يذيقه الله بعض متعته في بدايته. وعندما يبدأون في السعي بهذه المتعة، يضع أمام أقدامهم عقبة كل يوم، وعندما ألقي بهم في معمعمة البحث عن الأمر، أغلق الباب بعدها، قائلا، هاتوا المهر. وعلى ذلك الأمل يمضون ويذهبون، يتنازعهم اليأس والرجاء في كل لحظة".
إقرأ أيضا: مولانا جلال الدين الرومي.. أحوال العشق وخرائطه
ولهذه التجربة الشعرية الصوفية قصة، فقد كان في إمكان مولانا جلال الدين الرومي أن يصوغ تلك التجربة "العاطفية"، التي مر بها في علاقته بتلميذه شمس الدين التبريزي في إطار نظري شامل يخفي به عناوين مسار تجربة قلبية عرفانية، لكنه اختار، أو أن قوة ما مر به، تدفقت خارج كل مجرى وضد كل حدود.
وفي هذا الديوان، متعدد الاسم، نكتشف مدى ما يمكن أن يصله إليه الإنسان في أسمى عاطفته، وهل يملك القدرة على كسر الحدود واختراق الآفاق حتى يتسنى له النظر من وراء حجاب، أم أن مدى ما يمكن أن يصب له لا يستطيع أن يترجمه حتى ولو كان شعرا وقبسا من كلام.
إن الإمعان في القول على مدى ستين ألف بيت من الشعر، يعكس أحد حدين: الحد الأول عمق التجربة القلبية التي مر بها الشيخ العارف مولانا جلال الدين الرومي، سواء كان الأمر يتعلق بحادثة "عشق" حقيقية جرت في الزمان وفي المكان، أم كانت تلك التجربة، عرفانية وروحانية بامتياز، فديدن الصوفي ألا يتكلم إلا رمزا، ولا يرى إلا إشارة، فالرمز والإشارة من أسرار براعته، وهي لغته الفضلى المشفرة التي جهد في بنائها، على مدى عقود من تجارب المتصوفة العرب والمسلمين، وهذا النسق أصبح لوغاريتمات ورياضيات للروح وامتحاناً للعقل لتخطي ما وراء الحدود.
الحد الثاني، أنه لولا الزلزال العميق لتلك التجربة، لما احتاج فيها مولانا جلال الدين الرومي إلى كل هذا التطويل. ولو نظرنا إلى ذلك بحساب الزمن، لقلنا بلغة العصر، أن تلك الدفقات العميقة كتبت على مسافة زمنية استغرقت ربما سنوات، وظلت جذوة تلك التجربة بنفس الوهج، وربما رافقت صاحبها إلى مثواه الأخير.
ولم يكن لهذا الكتاب الشعري الاستمرار في الزمن، لولا أنه يحتفظ في جوهره العميق بكل أسس الديمومة وحجر البقاء الصلب. لذلك فقد امتد من يد إلى يد ومن لغة إلى أخرى، ورحل من الفارسية إلى العربية وإلى لغات اليوم، واصطبغ بها وبروحها، وكلما تعددت ترجماته ازداد بريقا ووهجا مثل الماسة في قاع البحر.
ومن هنا، أقدر المحاولات المضنية، التي قام بها العدد الوفير من عشاق مولانا جلال الدين الرومي ومن الشراح والنقاد ومتتبعي مسارات التصوف ومن البحاثة الغربيين، الذين جددوا الشغف به لدى القارئ العربي، وصارت تلك النصوص علامة مضيئة ومساحة منيرة في الثقافة العربية الإسلامية، تؤكد على أن العرب والمسلمين أهل محبة وصفاء، وأن حالات السواد التي عاشوها ويعيشونها، ليست إلا خروجا عن مسطور الكتاب المبين ومدلوله العميق، الذي أدركه الصوفي في لحظة قراءة عميقة مبنية على المحبة والرحمانية.
فالنص الصوفي، هو نص يقول ولا يقول، لا يمكن أبدا أخذه على محمل الظاهر، ولا قراءته مثلما تقرأ النصوص العادية والمألوفة، ذلك أن مرماه وهدفه أن يبلغ إلى الروح ويخاطب العقل ويتلبس بالحواس ويقرب التجربة الصوفية، التي هي تجربة في العرفان من الإنسان، والارتقاء به من حال النص إلى حال الكمال.
وفي هذا يرى الدسوقي شتا، في مقدمة كتاب "المثنوي"، لمولانا جلال الدين الرومي، أن الأزمنة كلها من ماضٍ وحاضر ومستقبل، كلها تمتزج عند الصوفي، فيكون ابن وقته، ثم يتجاوزها ليصير أبا وقته "أي مسيطرا كل السيطرة على كل أحواله ووارداته، فهو ليس عبدا لأي شيء، وليس ابنا لأي شيء".
المعرفة القلبية هي مدخل الصوفي إلى عالم العرفان، والقاعدة بسيطة للغاية، كما يصوغها مولانا جلال الدين الرومي، وهي كالتالي: "عندما تحس بالبسيط في قلبك قم بري هذا البسيط، سوف ينبت ثمارا، هب هذه الثمار إذناً للأصدقاء، وحذار من التفرقة بين البشر، فإن اختلاف القبلة من اختلاف وجهات النظر، واختلاف الدراويش الأربعة من اختلاف لغاتهم، وإلا فإنهم جميعا كانوا يرغبون في شراء العنب، ولو أن كل واحد منهم كان يعرف لغة الآخر لما تشاجروا".
الصوفي يترحل عبر العالم، ويقرأ في كتاب الوجود الكبير. إن رجل المقام لا يقيم في مكان محدد الأعيان، بل إن الترحل الواقعي وتجريب الآفاق الجديدة، والخروج من مكان، والدخول إلى مكان جديد، حتى يصطاد الحقيقة في طريق أو في غابة أو على ظهر سفينة أو في صحراء أو بين مفاصل وادٍ، أو تحت جناحي طائر.
يقول مولانا، جلال الدين الرومي: "يا من قامرت بنفسك في النزال، إنك لم تميز بين الآخرين وبين نفسك. إنك تقف أمام كل صورة تصل إليها قائلا: هذه أنا، والله إنها ليست أنت. وإنك إن بقيت لحظة واحدة بعيدا عن الخلق، تبقَ في حزن وفي قلق حتى الحلق، وهذا هو أنت، فمتى تكون ذلك الأحد، وأنت جميل بنفسك ثمل بنفسك حلو بنفسك. أنت طائر نفسك وفخ نفسك وأرض نفسك وسماء نفسك".
المعرفة الصوفية، تؤخذ بالتدرج وبإعمال التجربة في مختبر الروح، ومن ذلك"إن رأيت صورة في قاع النهر، فإن تلك الصورة تكون انعكاسا لشيء في الخارج أيها الفتى. لكن هذا يحدث عندما ينقى الماء من القذى، فالتنقية شرط لهذا الأمر في نهر البدن. ومن ثم فإن الرحمة الإلهية لا تنقطع عن البشر. ومن ثم، ففي كل دور ولي قائم.. والتجربة قائمة حتى يوم القيامة"، وهذا
لا بد هنا، من الأخذ بالحسبان أن التجربة الصوفية قائمة في المقام الأول والأخير على "الذوق"، وهو البوابة التي يعبر منها المريد الذي يسعى إلى المعرفة القلبية، ويتدرج بعدها، حتى يصل إلى مقام الوصول.
يسرد مولانا جلال الدين الرومي في كتاب "المثنوي" حكاية ذلك العاشق الذي هرب من العسس في حديقة مجهولة، فوجد المحبوب نفسه في الحديقة، فأخذ من فرحته يدعو للعسس بالخير ويقول "عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم".
ومولانا جلال الذين الرومي يؤكد أن طريق التصوف طريق شاق، وعلى داخله أن يتحلى بالصبر، وهو يفسر الأمر على هذا النحو، حين يقول "إن العاشق لكل عمل ولكل مجال، يذيقه الله بعض متعته في بدايته. وعندما يبدأون في السعي بهذه المتعة، يضع أمام أقدامهم عقبة كل يوم، وعندما ألقي بهم في معمعمة البحث عن الأمر، أغلق الباب بعدها، قائلا، هاتوا المهر. وعلى ذلك الأمل يمضون ويذهبون، يتنازعهم اليأس والرجاء في كل لحظة".
إقرأ أيضا: مولانا جلال الدين الرومي.. أحوال العشق وخرائطه