النسيج المُعجزة

27 مايو 2014
1940 الولايات المتحدة الأميركية (كيستون-فراس/غاما-كيستون/Getty)
+ الخط -

كم من فتاة استعجلت الأيام لتنقلها إلى اللحظة الثمينة التي ستتمكّن فيها من ارتداء جوارب النايلون. وكم من فتاة لبست جوارب أمّها في الخفاء؟ كم من فتاة ظنّت أنّها بهذا الجورب الناعم، الرقيق والقابل للتمدّد، ستقفز خارج حدود الطفولة، وتبلغ أراضي الأنوثة الخصبة بالخيالات والأحلام الوردية؟

كثيرات، وربما الأغلبية. لجوارب النايلون مكانة خاصة في ذاكرة أجيال بأكملها، منذ ظهر قبل 75 عاماً، إلى أن بدأ بالتراجع أمام "البانتي هوز" (ما نعرفه في العامية بالكولون النايلون) عام 1959، إلى أن تفوّق هذا عليه عام 1970 وتصدّر المبيعات، ولا يزال إلى اليوم.

أتت تلك الأيام في موعدها، وكان لمعظم الفتيات ما تمنّينه، وصارت تلك الجوارب من أبجديات يومياتهن، رغم أنّ واقع الأنوثة خذل أحلامهن، إلا أنّ ذلك موضوع آخر. وأتى يوم يحتفل فيه العالم بمرور ثلاثة أرباع قرن على ولادة جوارب النايلون، و80 عاماً على ولادة النايلون، الذي اعتبرته "شبكة بي بي سي" على موقعها الإلكتروني وفي تقاريرها المصوّرة "الاختراع الذي غيّر عالم الأزياء للأبد"، واصفةً النايلون بـ "النسيج المعجزة".

ولدت تلك المعجزة في الولايات المتحدة الأميركية، تحديداً في معامل "Dupont" دويبون للصناعات الكيميائية، على يد عالم الكيمياء العضوية الأميركي، والاس كاروذرز (مواليد 1896)، الذي اخترع النايلون ربيع عام 1935، ليكون بديل الحرير في الكثير من الصناعات، أوّلها تصنيع المظلات الهوائية، وذلك على الأرجح لأسباب عسكرية واستراتيجية، في ظلّ احتقانٍ وحشدٍ عسكري بين حربين عالميتين. عام 1938 طرحت شركة دويبون النايلون عبر فراشي الأسنان، وعام 1939 صنعت منه الجوارب، التي حقّقت إقبالاً كبيراً وصادماً وهزّت الأسواق، وباعت ملايين الجوارب يومياً في الولايات المتحدة وحدها، كما استخدمت خيوط النايلون في صنع صنارات الصيد والمواد الجراحية والأنابيب... توّج العالم الأميركي جهود من سبقوه لتحقيق معادلة "القوّة الرقيقة"، أو "الرقّة القوية"، نسيج رقيق ولكنّه قابل للتمدّد، فكان النايلون.

كاروذرز الذي انتحر عام 1937، لم يرَ اختراعه "المعجزة" يغيّر الموضة النسائية والشكل الخارجي لنصف المجتمع، الذي انفتح على أسواق العمل، وشغل بشكل متزايد المصانع والمكاتب والشركات والمدارس والجامعات... كما شهدت تلك الفترة انكماشاً تدريجياً للثوب الطويل، الذي لم يعد بعد عشرينيات القرن الماضي مقدّساً اجتماعياً، إلا أنّ ظهور القدمين عاريتان لم يكن مقبولاً. لذا، تخفيفاً لصدمة المجتمع أو اتقاءً لشرّ انتقاداته، كان لا بدّ للنسوة من عازل رقيق وناعم، يحول بين الجلد واللحم من جهة وعيون الآخرين من جهة ثانية، فكانت الجوارب الحريرية الحلّ الأفضل ولكن ليس الأيسر، بسبب ارتفاع ثمنها، ما جعل اختراع جوارب النايلون سبقاً اجتماعياً واقتصادياً في الولايات المتحدة الأميركية، وأوروبا لاحقاً.

لم يرَ كاروذرز أيضاً طوابير النساء، خلال الحرب العالمية الثانية، تصطفّ في شوارع نيويورك لشراء جوارب النايلون، بعدما أوقفت "دويبون" تصنيعه لمصلحة تصنيع المظلات الهوائية والأدوات الجراحية والطبية، تلبيةً لمتطلّبات الحرب التي التحقت الولايات المتحدة بها. ولم يعرف أنّ سوقاً سوداء نشأت لتلبية طلب النساء المرتفع، اللواتي لم يعجبهن أن تحرمهن الحرب مما بات أحد أساسيات حياتهن اليومية.


طابور لشراء جوارب النايلون من عربة متنقلة في نيويورك، ابريل 1941 (كيستون-فرانس/غاما-كيستون/Getty)                           



لبّت تلك الجوارب الكثير من متطلبات المرأة، تحايلت على المجتمع، وأخفت ما في الأقدام والسيقان من عيوب، مثل البثور أو الدوالي أو غيرها، ومنحت المرأة الدفء، الذي كان هدف الجوارب الأساسي منذ اخترعت قبل عصور عديدة للجنسين، منحت المرأة شعوراً بالأمان والحماية وأيضاً الجمال، تحديداً حين أضيفت مواد الساتان والحرير وأخرى براقة إلى النايلون وأعطت بريقاً جذاباً.

لم يقتصر دور الجوارب على هذا، بل يبدو أنها مهّدت بالفعل لتغيير عالم الأزياء، إذ ساهمت بازدهار "التنورة" واكتساحها لاحقاً، فقد تشجّعت مقصّات الخياطين، واقتطعت الكثير من أقمشة التنانير والفساتين، مطمئنين إلى أنّ وجود الجوارب الطويلة والكولونات ستجعل موضة "الميني" مقبولة اجتماعياً. صحيح أن التنورة تأخّرت حتى سبعينيات القرن الماضي كي تتحرّر وتنتشر بأطوال وموديلات مختلفة، إلا أنها منذ تحرّرت لم تعد أبداً إلى الأسر.

بين 1967 و1970 وصلت التنورة إلى أقصر ما يمكن أن تبلغه أو بلغته حتى اليوم، وإن تراجعت موضة "الميني جوب" لاحقاً إلا أنها لم تختفِ، وبقي للمرأة حرية اختيار الطول الذي يناسبها ويناسب مجتمعها، كما كان الوضع دائماً. لم تحرّر الموضة المجتمع، ولكنّ تغيّر المجتمع حرّر الموضة.

شكّلت رقّة نسيج جوارب النايلون للنساء مشكلة بارزة، هي هشاشته وتعرّضه للتمزّق السريع. لم تصمد مقولة "القوّة الناعمة". كان يمكن لخدش بظفر أن يفسد الجورب. ورغم أنّه زهيد الثمن، إلا أنّ كثيرات من صاحبات الدخل المحدود أو حتى الفقيرات لم يحتملن خسائره. ابتكرن طرقاً لإصلاح مزق تلك الجوارب، ومنها دهن طلاء الأظافر مكان المزق الطازج لمنع انتشاره، إلا أنها لم تكن كافية. بحثن عن حلول أكثر عملية، ظهرت لهن مع انتشار موضة السراويل والجينز لاحقاً.

بعكس ما يشاع، موضة السراويل لم تلق رواجاً عند النساء تشبّهاً بالرجال وانتقاماً من سلطويتهم، بل لأنّها كانت حلاً عملياً لمشكلة الجوارب اليومية، التي لم تعد تناسب زحمة المدن وسوق العمل ووسائل النقل العام المكتظّة. تخفّفت النسوة من همّ الحذر المبالغ فيه للحفاظ على سلامة النسيج الرقيق الذي يتنقلن به، حذر يشبه ما حملنه خلال تاريخ طويل على نسيج آخر، اعتبر كنزهن الذي لا يجب أن يمسّه أحد، إلا وفق ترتيبات معينة، يضعها مجتمعهن، أو بالتحديد الأقوياء والمسيطرون عليه، ويحقّ لهم بيعه وشراءه والمزايدة عليه.

الشبه كبير بين الأنثى ونسيج النايلون اللامع، تجمعهما الرقّة القوية والقوّة الهشّة، وكذلك التقنية التاريخية: ما يمزّق لا يمكن رتقه.

 

 

مصنع جوارب نايلون في نوتينغهام 1949 (بوبرفوتو/Getty)            

 

 

المساهمون