النسوة اللاتي

20 مارس 2018
مياسة السويدي/ البحرين
+ الخط -
"نحن هنا مستعدون لإطفاء هذا الزمن، برشّ الماء عليه، الماء يجسد رغبتنا في القضاء على أي شر، إذا سار الماء إلى بلدة عطشى مات الموت الذي يحاصرها، والماء أوّل سائل ينفد في الأوقات الصعبة، نحن هنا من أجل الثأر من كل ما جرى في الماضي، ولا تقل لي إن نطفة خصبة ستمحو كل الآلام وتعيد التسامح لصدورنا، صدورنا، التي أرضعناكم منها، تنوء بالكثير من البغض تجاهكم، طبقة فوق طبقة من البغض، تراكمت الطبقات منذ سنوات، وليس من السهل أبدًا الحفر وإزالة هذه الطبقات دون حساب، دفعنا الكثير، من أعصابنا، ومن عافيتنا، ومن أحلام بدّدناها، وكان من الممكن أن نحقّقها، لكننا محوناها من أجلكم، ثم في النهاية حملتمونا إلى دور المسنين، وهناك تركتمونا مع الغرباء، نحكي لهم حكايتكم، وقصصكم، واللحظات التي حملناكم فيها ومسحنا مؤخراتكم، ونظفناكم، واصطحبناكم إلى المدرسة، ثم حملنا همومكم، حينما كنتم تهيمون بأخريات، تتحدثون معهن طوال الليل، بينما نحن نحمل إلى فراشكم كوب اللبن في الصباح، كل هذا لم يشفع لنا، بينما تضحّون بنا يا أنذال. جفافكم أبسط رد اعتبار لنا".

كن يردّدن نفس الكلمات، يردّدنها منذ سنوات، منذ نفيهن إلى هذه الدار، كأنها صارت أناشيد، أضفن لها مؤخرًا عبارة "جفاف الماء" حينما تناهى إلى سمعهن ما يحدث في المدينة من جفاف. حينما أزورهن كل سنة، أجدهن لا يزلن يمضغنها.

إنهن المسنات السبع، اللواتي يعشن في تلك الدار المخصصة لهن، على قمة الجبل، كان عددهن أكثر من سبعة. مسنّة ثامنة فتحت الباب ذات ليلة، وخرجت، وبحثت عنها الممرضات، قبل أن يجدن جثمانها مسجى أسفل الجبل الواقع على قمته دار المسنات، مسنة تاسعة أصيبت بالذهول المستمر، الذي ظل منطبعًا على ملامحها أكثر من خمس ليال، قبل أن تقرر إدارة الدار نقلها إلى مستشفى نفسي، المسنات ظللن يتناقصن في الدار، حتى استقر العدد على سبع مسنات، صرن الأكثر قوة وقدرة على البقاء في مواجهة بعضهن لفترة طالت، حتى أنهن كففن عن الاتصال بي، لإمداد الدار باحتياجات الموتى من الأكفان، والقطن، ومسك الجثث، وهي الأشياء التي ظللت أحملها كثيرًا إلى الدار، كلما حان أجل إحدى المسنات.

لكن منذ أن توقف الموت عن زيارتهن، حتى انتفت ضرورة زيارتي، أو حجتها، فصرت أزورهن لأجلب لهن زيوت التدليك المستخدمة لمفاصلهن، هن أيضًا صرن ينتظرن زيارتي السنوية، التي لم يتغير موعدها أبدًا، لم تتقدم، لم تتأخر، ولم أفعلها أكثر من مرة خلال العام، هذه المرة، كنت أذهب إليهن، ومعي شيءٌ آخرُ غير الزيوت، قصة الرجل الأجنبي وتقريره العجيب، وحكايته عن الرجل الخصب الأخير، الذي ينوى ترشيحي له لنتزوج.

ظللن دائمًا نظيفات، بدَيْنَ في أفضل حال، كأنهن استحممن للتو قبل أن أطرق بابهن، الممرضات اللواتي كن في الدار، يهيئن أنفسهن لزيارتي، فيختفين، كأنهن يتجنبن رؤيتي، أو كأنهن يعرفن حقيقتي، لم أعبأ، خصوصًا أن اختفاء الممرضات أمرٌ عاديٌ، هن دائما يهربن من خدمة المسنات السبع، المسنات أيضًا لا يشتكين غياب الممرضات، هذه المرة، كانت تفوح من الدار رائحة عطر عجيب، عطر قديم، تختلط به رائحة خشب الأرضيات العتيقة، وتبرز في مقدمة الروائح رائحة استحمام المسنات، مختلطة بضوء الشمس، الذي يفترش أرض الدار، عبر النوافذ التي تطوق جدران البهو الرئيسي، حيث تفضل المسنات السبع الجلوس على مقاعدهن المتجاورة، هنا يبدين كأنهن ملكات معزولات، تم خلعهن عن عروشهن.

بدون أن أطرق الباب، أدخل، فأجدهن يبتسمن في حبور، كأن إحداهن قالت نكتة، وفرغن من الضحك عليها، تستقبلني ابتساماتهن، وتقول أكبرهن سنًا:
- أهلا أهلا بفتاة العتبة..

أشعر كأنني انتقلت إلى زمني الذي أنتمي إليه، غير زمن الرجل الأجنبي الذي جاء ليكتب تقريرًا، والرجل الخصب الأخير، الذي سيرد للمدينة أطفالها، زمن المسنات هو زمن حكايات الجدات، والأحجيات، والقمقم النحاسي، الذي سيخرج منه ماردٌ مارقٌ، غضب عليه أحد الأنبياء في زمن قديم، أو جني مسحور، قضى أربعمائة سنة في زجاجة، قلت للمسنات:
- ازيكم.. لسه عايشين في أحلامكم؟ شايفاكم حلوين ونضاف، ومعمرين طاقتكم، راحت فين الممرضات؟
قالت أكبرهن:
- أهلا يا شاهيناز.. بننتظرك من السنة للسنة، من الطبيعي أن نستحم، ونتهيأ لحضورك، زيارتك غالية علينا يا فتاة العتبة.

قالتها وهي تغمز، فابتسمت، لا أشعر بأية إهانة كلما رددتها إحداهن، قلت:
- يعني الحلاوة والنضافة دي كلها عشان زيارتي؟ أنا حاسة روحي محظوظة..
- ضرورى تكون شاهيناز فتاة العتبة محظوظة، وأنت في ايديك كل طاقة السحر، احنا حاسدينك أصلًا على جمالك، وأنت عجوز كُهنة زي حالتنا، لكن ازاي بتقلبي أقوى الرجالة أقلام حبر ناشفة؟ وفي نفس الوقت تروحي تخدمي الولي؟

والتقطت الحديث جارتها الثالثة:
- عارفين انك نفسك تمثلي الفوازير تاني.. كلنا حبناكي في الدور، ونفسنا ترجعي تاني.. كنتى أحسن من نيللي.

التفتت إليها الكبرى:
- دي مش شريهان، دي شاهيناز، فتاة العتبة، هي أيضا بطلة، لكن في صفحات الحوادث، مش صفحات الفن.

قالت الثانية:
- أنا عارفة أنها شاهيناز.. بطلة صفحات الحوادث، بل هي بطلة تاريخ يحاولون مسحه، وأعرف أنها تقف أمامي الآن في 2015، وأعرف أنها مكلومة، وتألمت لعقود، لكنني أدعوها شريهان، وسأظل أدعوها شريهان.

ابتسمتُ قبل أن أقول:
- أنا عارفة إنك بتندهي لي بشريهان، وعارفة إنك بتحبيني زي شريهان، وتتمني أكون النجمة الكبيرة، اللي عملت أحلى فوازير، أنا كمان عندي فزورة، حابه أقول لكم عليها.

نظرت لي المسنة الكبرى، ثم ضحكت، فقالت زميلتها:
- بيشم الحرب.. انتي ازاي مش خايفة منه؟ احنا هنا بنشم روايح عطنة.. دا بيحصل على طول.. لكن حرب؟ هنا؟ في البلد دي.. القيامة لو قامت هتلاقي الناس رايحة تجيب لحمة وكسوة ويخزنوا السكر والرز.. لكن حرب.. الستات وحدهم اللي يقدروا يولعوا حرب كل يوم.. لكن محدش يلتفت لها.

قلت:
- دا جزء من الفزورة، الأغرب.. إنه عاوزني أتجوز آخر فحل.. معرفش هيقابلني بيه ازاي؟ بيقول إنه بيدور عليه.. المشكلة إني وقت ما هقابله، هتضربه لعنتي زي باقي التعساء.
تبادلن نظرات، قالت أكبرهن:
- حتى الآن.. انتي معملتهاش.. لإتقاء الشر..بطلي تعملي كدا..فاهمين طبعًا غضبك من الخلق، والظلم الكبير اللي تعرضت ليه، في النهاية محدش بيحارب الخلق كلها.. ولا حد بيفضل يشاغب فى الكل.. لازم تعملي ليك حلف.. أو اشغلي روحك.. ازرعي الطماطم في سطح بيتك.. الطماطم محتاجة الشمس.. وكذلك روحك.

يا لحماقتي.. أذهب للمسنات، لعلي أجد لديهن نصيحة غالية، فيتفوهن بالكلام الفارغ، ويدعونني لزراعة الطماطم، قلت وأنا أنهض:
- مبسوطة إني اطمنت عليكم.. يا رب تفضلوا على خير.. إن شاء الله أشوفكم السنة الجاية.

* كاتب مصري من مواليد 1980. من إصداراته الروائية: "شديد البرودة ليلاً" (2008)، و"الموت يشربها سادة" (2010)، و"خنادق العذراوات" (2013)، و"إيقاع" (2015)، وله أيضاً مجموعتان قصصيتان؛ "سبع محاولات للقفز فوق السور" (2013)، و"شوارع السماء" (2017).

** فصل من رواية قادمة بعنوان "النسوة اللاتي".

دلالات
المساهمون