النرد الذي يرمينا

11 ديسمبر 2015
كم أرغب في الرقص في هذا المكان (Getty)
+ الخط -
كان الشتاء طويلاً، أطول من أنفاسي في المحطة، وأبرد بكثير من غربة الأيام والأسماء التي تحيط بي. الحافلة تحمل رقماً لنا دائماً، البوسطة تُسمى هنا في لبنان، الباص كما نعرفه هناك في سورية، أربع عجلات تحملنا بلا وجهة محددة، الرقم في الأمام سيصل دائماً، كلنا سنصل يوماً ما، أدندن أغنية تعلمتها في المدرسة، اكتشفت أن الغبار يكسو ذاكرتي. شطران من أنشودة طفولة فقط. شطرين من القلب أصبحتُ وشطرين من الروح. كل ما في جعبتي اليوم غبار ورفات وطرقات سرتها وحيداً.
أنفخ في يدي لأبعد كل هذا الجحيم القارس، تنفخ في وجهي الريح لترتب حزني من جديد.
منذ خمس سنوات ولا حزن مرتباً أمرُّ به، كنت في البدء حفنة من الدموع تنتظر الحافلة، حفنة من الحزن المتكور في القلب ينتظر أن يركله القدر. أتاني القدر بحافلاته المصفحة، برصاصه المعد لي ولكم، بقدميه التي تترك علامات تنبهنا للرقم الذي كناه قبلاً.
كم أرغب في الرقص في هذا المكان. ساحة مكتظة بالمارة، يهرولون للدفء، لصد البرد، أرغب في الرقص هنا ولن أشعر بالخجل، أنا اليوم غريب بينهم، كما كانت غربتي منذ جيلين، لم يرقص أحد قبلي هنا، سأكون أول من رقص في برد بيروت، في حر الحزن هذا، لكنني سأبقى ذلك الغريب الذي يرقص في برد المحطة.
تصبح الرقصة بعد فترة رصاصاً في الذاكرة، يقتل كل حركة للفم لصنع ابتسامة، يقتل كل نبضة راقصة مثلي.
لم أسمع صوت الرصاص منذ سنتين، لعلي اشتقت لكل الأنقاض التي لم أكن تحتها، حينها ، كنت فقط شاهداً على كم الحزن الذي ينهار بلحظةٍ ،كما انهارت هذه المباني بغفلة الضعاف عن حقد القتلة .
الرصاص سيصبح ثلجاً بعد فترة، سيمضي رمادنا برداً لوجه القتلة، تنفخ النار علينا لتدفأ، هي قبلة طاعنة كل هذا الحال ، الفقر أبيض في ذلك النرد الذي يرمى فوق أجسادنا المرقمة من اللانهاية إلى اللانهاية، الموقف فرغ من الناس، يفرغ دائماً وأبقى أنا ملوّحاً ،أرمي النرد بعد كل تذكرة تقطع من القلب ،يصلون لقمحهم وأنا أحصد وحدتي البور.
أتت الحافلة مبكراً على غير عادتها هذا المساء، لا رقم لها، لكنها حافلتي التي ستقلني إلى الوجهة. قد تكون مبكرة أكثر من الحافلات التي سبقتها بجيلين أو أكثر، قد أكون محض رصاصة عالقة في موقف باص ، قد أكون نرداً بلا أرقام، نسيه عاشقان على حافة فراق، أو عجوزان ملاّ من الطاولة نفسها، لا النرد أنا، ولا أنا النرد، عدم يدور في عدم، عدم يخلق حافلات للكل ولا يركب خوف الوصول إلى حافة وداع لا يلوح فيه لأحد.
المقعد خالٍ، يعرف أقواماً وأعراقاً ولغات، يعرف كيف يخلق حزنه، وفرحه، يعرف كيف يراهن على الجالس مثلي.
النرد لا يمكن أن يصبح رصاصة بعد كل هذا، ركبت الحافلة أحصي خساراتي المتكررة، أخذوا مني كل شيء وتركوا لي مكعباً أبيض لأنتحر به، رميته من الشباك وأنا أنظر لأحد وجوهي، التي تركتها تدفىء نفسها في محطة قرب المغيب بشبر، بشبرين من حزن.

اقرأ أيضاً: رسالة إلى بابا نويل..إن كنت تنوي زيارة سورية
دلالات
المساهمون