رغم قسوتها وقواها العاتية، كانت الطبيعة أحياناً كثيرة رفيقة بالانسان. قدّمت له الإلهام ليجعل حياته أفضل. شجرة النارنج مثال مشعّ. زهورها العطرة الفوّاحة أيقظت خيال الانسان الخمول ودفعته إلى صنع "ماء الزهر" المطيّب الأبرز في المطبخ الشرقي، كما ألهمته ثمارها المرّة لصنع المربيات والمرمليد وأيضاً العصير الملازم لأطباق المطبخ الفارسي والعراقي والشامي وعصائره.
في مثل هذه الأيام الربيعية ينشغل الريفيّون في بعض بقاع العالم بموسم قطاف زهر النارنج أو البرتقال المرّ، أو "أبو صفير" كما يسمى في بعض البلاد العربية.
بعض الروايات التاريخية تشير إلى أنّ الصين هي الموطن الأصلي لشجرة النارنج، انتقلت منها إلى بلاد فارس وما بين النهرين ثم شرق المتوسط ثم الأندلس، التي عرفت النارنج قبل أنواع البرتقال الأخرى. ولا يزال الطريق الذي سلكته من الصين إلى إسبانيا أخضر مزهراً لليوم، وأثره واضح في مطابخ هذه البلاد.
عُرفت هذه الشجرة بثمارها المرّة التي كان يمكن أن تؤدّي إلى استبعادها من الحديقة النباتية للبشر، ولكنّها لم توفّر جهداً لإفادتهم وإلهامهم بالكثير من المطيّبات والأطعمة والعقاقير.
هذه الشجرة المهجّنة من نوعي برتقال هما البوملي والمندرين، أخذت ثمارُها مرارةَ ثمار الأوّل وشكل ثمار الثاني، لتكون منذ العصور الأولى لغزاً محيّراً للإنسان. فقد فتنته بجمالها ورائحة زهورها، ولكنّها لم تقنعه بأنّها شجرة زينة فقط. يتّجه عقل الانسان بالفطرة نحو "الاستثمار" والتدجين وأيضاً التحلية.
بسبب مذاقها، استحال أكل ثمارها كأنواع البرتقال الأخرى، حتى لو كانت ناضجة للغاية، فحرارة الشمس غير قادرة على تحليتها، لأنّها تحتوي على معدّل كبير من مادة "البكتين" مرّة المذاق. مطبخ "التاميل" قدّمها فجّة مع الملح، كما نأكل نحن الخوخ الفجّ الأخضر واللوز الأخضر أيضاً، لكنّ هذا بقي امتيازاً محلياً، وبقيت تلك الثمار فجّةً أو ناضجة غير مؤهّلة لأن تؤكل.
لكنّ زهورها الفوّاحة زكيّة الرائحة بالغت في قوّتها لأجل لفت نظر البشر. أغرت الانسان بالاستفادة منها، كذلك دفعَ مفعولها المهدّئ للأعصاب والمثير لبهجة النفس أهلَ الطبّ الشعبي والعطارين إلى تقطير الزهور واستخدام مائها وزيتها في عقاقيرهم وعطورهم.
استفادت مطابخ كثيرة من عصير النارنج في تطييب السَلَطات، كما في إيران والعراق وتركيا وبلاد الشام، وعمدت إلى تحلية العصير نفسه ليصبح عصيراً حلواً يضاهي عصائر أنواع البرتقال الأخرى.
زهور النارنج - ويكيبيديا |
لتطييب الطعام أيضاً، لجأ الانسان إلى تقطير الماء من زهر النارنج ليحصل على "ماء الزهر" أو "المزهر"، أحد أبرز المطيّبات في المطابخ الشرقية والحلويات العربية.
لتحضيره يتطلّب الأمر آلة خاصّة للتقطير تسمّى في الأرياف الشامية "كركة"، توضع زهور النارنج فيها وبعض من قشور الثمرة وتغمر بالماء، تُقفل الكركة ثم توقد النار تحتها. حين الغليان يتصاعد البخار ويصطدم بسقف "الكركة"، فتقطر حبّات عطرة هي "ماء الزهر"، لكأن روح الزهور تزهق وتصطم بسطح بارد فتتحول ماءً. بديهي أن العطر هو روح الزهور، و"المزهر" هو روح النارنج.
تتطلّب هذه العملية ساعات طويلة. للحصول على قارورة "ماء زهر" نحتاج إلى 6 ساعات من التقطير. وتلك معادلة عادلة: روح الزهرة ثمين كالعمر نفسه.
المعنى الروحي لماء الزهر واضح في الثقافة الشرقية والعربية، لعلّ أبرز مشاهده في الجنازات والمآتم، حيث يُنثر الماء المخلوط بماء الزهر على الحشود المفجوعة تحديداً أهل الفقيد، لما يمتلكه "المزهر" من قدرة على انعاش الروح ومنع الإغماء (صار المشهد عالمياً حين بثّ الاعلام التلفزيوني وقائع جنازات ضحايا المجازر الاسرائيلية، تحديداً مجزرة قانا 2006). كذلك ينصح الطبّ النفسي مرضاه المشوّشين نفسياً أو المصابين بالاكتئاب بماء الزهر، لقدراته العلمية على تحسين المزاج والانشراح. وينصح به أيضاً لعلاج المغص تحديداً لدى النساء المرضعات، اذ يتحول مفعوله عبر حليب الرضاعة الى الطفل الرضيع الذي يشكو كثيراً من المغص في شهوره الأولى. كذلك يعمد الأهل الى مسح أجساد أطفالهم الرضّع ببعض من ماء الزهر لأجل الرائحة الزكية. ولا تخفى مكانته في طبّ التجميل والحفاظ على رطوبة البشرة ونضارتها.
تحلية الثمار المرّة
كانت خسارة أن يضطر الانسان إلى رمي ثمار النارنج، لذا أعمل خياله لتحويلها إلى شيء يؤكل، او بالأحرى: تحليتها.
تطلّبت تحلية ثمار النارنج المُرّة الكثير من الماء والسكّر وساعات من الغلي، إلا أنّ الأمر استحقّ ساعات الجهد التي بذلت، والتي أنتجت مربى البوصفير الشرقي والمرمليد الأوروبي.
الأوّل عبارة عن قطع الثمرة المقشّرة التي غليت ساعات ثم غلّفت بالسكر، والثاني هو طهو لبّ الثمار وقشورها مع العسل أو السكر، وهو على الأرجح اسكتلندي الأصول.
نثار قشور النارنج استخدم أيضاً في تحضير الحلوى والخبز كما في أوروبا، في فنلندا والسويد تحديداً.
في أرضنا العربية، حافظت شجرة النارنج على وجودها. لا تزال تتمسّك بمكانها في حدائقنا، في محيط بيوتنا، كما تصمد في بساتين العراق لقدرتها الجبارة على تحمّل الحرارة المرتفعة. ويتعدّى الأمر كونها شجرة مفيدة وجميلة تحلّي الطعام وتداوي وتنعش الروح العليلة، إلى تحوّلها رمزاً من رموز بيئتنا وتميّز مطبخنا وحتى روائح بيوتنا وملابسنا وأطفالنا... تلك المرارة التي تتحوّل طِيْـباً تقدّم المثال على اقتران النارنج بجوهر الحياة نفسه.