بيت في قرية ناهيا "شمال الجيزة" يتزيّن لعقد قران في صباح ذاك اليوم، العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2013، استيقظت عروس البيت على صوت أختها الكبرى، نجاح عبد ربه إبراهيم (48 سنة)، وهي تنادي بفزع بوسط المنزل على أفراد عائلتها اسماً اسماً.
رمت نجاح شنط "الطعام" التي في يديها، وتوجهت نحو غرفة أمها الحاجة "فتحية"، سؤال يقابله آخر..
نجاح: "مين في البيت يا أمي"؟
أجابتها والداتها: الجميع.. خير!
تزيد من إرباك الأم العجوز بأن توصيها بألا تتحرك من البيت أو تسمح لأحد بمغادرته إلى حين عودتها، "الدنيا مقلوبة"، بتلك العبارة تحاول اختزال ما تريد قوله.
لم تمر دقائق من مغادرة نجاح المنزل إلا وفوجئت الأم باقتحام ما يزيد عن 15 رجلاً من عناصر الأمن المركزي والشرطة لتفتيش المنزل.
أقبلت عليهم الأم متوسلة: "عقبال ولادكم اليوم عقد قران ابنتي الصغيرة، يتيمة الأب".
لم يستجيبوا لاستغاثات الأم لهم، سارعوا بانتشال "ابنها الأوسط" إبراهيم من فرشة سريره ثم غادروا المنزل في اتجاههم إلى منزل ابنتها الكبيرة "نجاح".
كانت قوات الأمن في ذلك التوقيت تهاجم بيوت القرية وتتجسس بحملات استكشاف لمعرفة البيوت المعارضة للنظام العسكري، لكسر شوكة كل من تحادثه نفسه بأن يعارض النظام أو يتحدث في السياسة، والتي أصبحت في وقتنا هذا جريمة يعاقب عليها القانون.
أرشدت إحدى جارات الحاجة نحاج "مخبر" أمن الدولة عن نشاط الأخيرة، وأبلغته بأنها تشارك في كافة المسيرات المعارضة للنظام وممن يؤيدون محمد مرسي، بل وأنها تتحدث عن السيسي بسوء!، وكانت التهمة الأخيرة بمثابة "كلمة السر التي تصيب رجال الداخلية بالهياج الأمني"، وبالفعل تحركت سبع عربات أمن مركزي إلى بيتها.
وبمجرد أن لمحت "نجاح" عربات الأمن المركزي تقترب من منزلها، توسلت إلى زوجها مريض القلب وأبنائها الثلاثة، أحمد ورحاب وهدى بأن يكتموا أنفاسهم ويغلقوا الباب وراءها، فضحية واحدة تكفيهم اليوم!
خرجت إليهم وكبدها المصاب بـ"فيروس سي" يتقطع تحسراً حينما وجدت أخاها بالخارج
- أنت نجاح عبد ربه إبراهيم؟
- نعم
- اركبي
أنوار البيوت المضاءة بـ"لمبات" الأفراح انطفأت.. أربعة أيام متبقية على حلول عيد الأضحى وبعد إخفاء قسري استمر أربعة أيام، علمت أسرة نحاج بمكان اعتقالها في معسكر الكيلو "عشرة ونص"، وأن هناك إمكانية لزيارتها.
أربع دقائق فقط مدة الزيارة المسموح بها، ظلّت محتجزة بالمعسكر لمدة 30 يوماً، وبعد تدهور صحتها، تم ترحيلها إلى "قسم ثان أكتوبر" ونقل أخوها إلى سجن وادي النظرون.
أكثر من سبعة أشهر والمرأة مودعة في قسم ثان أكتوبر مع الجنائيات بلا تهمة، زيارات محدودة.. كان الرد على تساؤلات احتجازها بعبارة واحدة: "الموضوع في إيد النائب العام يا مدام"، إلى أن أعطت نيابة أكتوبر أوامرها بترحيلها إلى سجن القناطر.
روت لي ما حدث لها في أول يوم لها بسجن القناطر، وأضافت عليه قائلة إن أثار الضرب الذي تعرضت له في أقسام الشرطة ما زال على أكتافها وظهرها، وكأن ضرب النساء بالكرابيج "تشريفه" فرضت لهن.
اتسعت الدائرة الاجتماعية لهذه المرأة مألوفة الملامح، وتسبب ذلك بالتبعية في إغلاق دوائر الآخرين، وكان يظهر ذلك في المضايقات الطفيفة التي تعرضت لها من بعض النساء اللواتي يتسمن بالغيرة الاجتماعية، فالأنثى هي الأنثى.
أمهات بديلات أوجدتها الظروف معنا، مواقفي مع الحاجة نجاح معظمها إنسانية قد لا تهم القارئ كثيراً، ولكن تركت آثارها وانطباعاتها على شخصيتي.
بعد خروجي بأشهر، وتحديداً في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 2014، أصدرت المحكمة قرار بإخلاء سبيلها، كنت أظن أن المضايقات الأمنية ستجعلها تغلق الأبواب عليها مجتهدة خوفاً أن تصيبها القارعة الأمنية مجدداً، فإذا بها تتصدر مسيرة معارضة للنظام في أول يوم لها بقريتها وتهتف بعلو صوتها "يسقط يسقط حكم العسكر".
(مصر)