العام الماضي في ألمانيا، حاضرة الموسيقى الكلاسيكية، وفي مقاطعة "سكسونيا - آنهالت"، كان قد تضمّن البرنامج الانتخابي لحزب أقصى- اليمين المتطرف؛ "البديل"، تنديداً واضحاً بعقيدة "تعدديّة الثقافات"، تجلى عملياً خلالَ حضّ المؤسسات الثقافية، من مسارح ودور أوبرا وفرق سِمفونية، على إيلاء الموسيقى الكلاسيكية (الألمانية) الأحقية في تصدر برامج العروض السنوية.
أما في مقاطعة "بادن - فيتّنبرغ" الجنوبية، فقد طالب مندوبو الحزب نفسه السلطاتِ بمنح بيانات تُحصي عدد أولئك الموسيقيين والراقصين غير الألمان، متوعدين بـ "اصطيادهم"، على حد تعبير أحد قادتهم، مذكراً بلُغة ظن مواطنوه أنهم قد تابوا عنها زمناً طويلاً وإلى غير رجعة.
النزعة الوطنية إزاء الفنون، والموسيقى الكلاسيكية في سياق هذا المقال، وعلى تلك الحدّة والوتيرة، تبدو ظاهرة جديدة، تُشير إلى صعود الهويّاتية السياسية أولَ القرن الحادي والعشرين، ليس في أوروبا وحسب، وإنما على قدر المساواة في جهات العالم الأربع؛ فأيّ تلاقح يجري بين الثقافات تنفي عنه سمة الأصالة وتجر عليه تهمة الاستيلاء الثقافي.
علاوة على ذلك، لم تعد الانعزالية حكراً على اليمين المُحافظ والمتطرف، وإنما اليسار المُغالي والمتحرّر أيضاً، الذي بات ومن باب الانحياز إلى المُستعمَرين، يرى الموسيقى الكلاسيكية نوعاً من سلطة ثقافية تقود الذائقة، فُرضت تعسّفاّ على يد المُستعمِرين، ملوّثةً تراثهم العذري الصافي. هكذا، تجد الموسيقى الكلاسيكية نفسها بين مطرقة الهويّاتيين ممانعي الكوزموبوليتانية، وسندان الثوريين مناهضي الكولونيالية.
في المقابل التاريخي، وضمن سياق السيرورة الحضارية، لم يكن الأمر على هذا النحو قروناً من الزمن، حينما ألهمت جوقات الترتيل البيزنطي كلاً من موسيقى البلاط الإسلامي وأوروبا عصر النهضة زمن العصور الوسطى على حدّ سواء، ولا حين شاع الغناء السردي الجوال، ذو الجذور الأندلسية والمعروف بـ "الترويادور" شمالي حوض المتوسط، والذي اعتُبرَ بخاصيته الدرامية الحكائيِّة، إحدى البذور الأوَلى التي نبتت منها وتفرعت عنها الموسيقى الكلاسيكية الحديثة.
لم يكن الأمر كذلك قبل قرنين من الزمان، حين كتب العلم النمساوي موتزارت عام 1782 أوبراه الاستشراقية، "الاختطاف من السراي"، التي تدور أحداثها في قصر الخليفة العثماني، ولكانت ستُعدّ اليوم نموذجاً صارخاً ومثالاً فاقعاً على ما يُدعى بـ "الاستيلاء الثقافي" في تجسيد الأجواء الشرقية مشاهِدَ ومسامِعَ، أتت في زمنها بمثابة مرآة عكست أحدث تقليعات عصرها، افتتانا بموسيقى الفرق العسكرية التركية والمعروفة بـ "آلا توركا".
لم يكن الأمر كذلك قبل قرابة القرن من الزمان، في سانت بطرسبرغ الروسية عام 1888، عندما افتتح ريمسكي كورساكوف (1844 - 1908) عروض متتالية السيمفونية المعنونة "شهرزاد"، المُستلهمة من قصص ألف ليلة وليلة. لم يرتَبْ أحدٌ من ألوان الزخرفة اللحنية الشرقية "الأرابيسك"، أو من الألوان الشرق - الآسيوية "الجابونيزم" أو الأفريقية "الأفريكانزم"، والتي زخرت بها موسيقى الانطباعيين الفرنسيين كديبوسي 1862-1918 ورافيل 1875-1937.
لم يكن الأمر كذلك، ولا حتى منذ ثلاثين عاماً، قبيل انتهاء الحرب الباردة بانهيار الستارة الحديدية، وقتها عُدّت الموسيقى الكلاسيكية إحدى الصادرات الرئيسة لبرنامج المواجهة الثقافية، الذي اعتمدته الحكومة الأميركية منذ الخمسينيّات في مقارعة الاتحاد السوفييتي ومعسكره الشرقي دعائياً، عن طريق إرسال كبريات الفرق السمفونية الأميركية في مهمّات فنيّة إلى سائر بلدان العالم، تؤدي أعمال كبار المؤلفين الكلاسيكيين.
أما في العالم العربي، فلم ير الراحل محمد عبد الوهاب (1902 - 1991) حرجاً في توزيع عديدٍ من ألحانه بأسلوب كلاسيكي غربي، مُوظّفاً مختلف الآلات السمفونية، مُقدمّاً متنوّعَ الرقصات الغربية، كالفالس والتانغو. مُجايلٌ آخر من مصر، هو محمد القصبجي (1892-1966) هو الذي مكّن المطربة أسمهان (1912-1944) من تقديم صوت أوبرالي من خلال عمله الشهير "يا طيور".
منذ بداية تبلورها كواحدةٍ من المُخرجات الفكرية لعصر التنوير في مجالات العلوم، الفلسفة أو الأدب، شكلت الموسيقى الكلاسيكية، منذ زمن الباروك مروراً بالرومانسية المتأخرة وصولاً إلى أحدث إنتاجاتها المعاصرة، استمرارية تاريخية من النشاط الإنساني اشترك بها كل الناس، كما استوعبت إسهامات ثقافية عديدة من مختلف أنحاء العالم.
في الحقبة المابعد كولونيالية المعاصرة، وبالنسبة إلى كثير من أبناء الطبقة الوسطى لدى البلدان المُستقلة حديثاً عن الاستعمار الغربي، أوقدت الموسيقى الكلاسيكية شغفهم وشكّلت في كثير من الأحيان ذائقتهم الموسيقية في ظل بيئة سمعية محيطة طغت عليها الموسيقات التقليدية، المقتدرون منهم أرسلوا أطفالهم إلى المعاهد الموسيقية لتعلم العزف على آلة كالبيانو والكمان.
ميزة الموسيقى الكلاسيكية تتجلى في قدرتها على العبور بالعاطفة الإنسانية سمعياً خارج نُطُق الهويّات المحليّة، بحيادية "النظام المقامي المعدّل"، والذي ما هو سوى اختراع فيزيائي صُهِرت بموجبه المقامات المُتعددة ذات البُعيدات غير الثابتة والتي شاعت في أوروبا القروسطية بمُختلِف أقاليمها، لتدوْزن الألحان على اثنتي عشرة نغمة ثابتة البعد والاهتزاز، مؤلفةً ثنائيةً مكوّنة من سُلمّين ثابتيّ الأبعاد، قابلين للهرمنة العمودية، مُحدثةً بذلك وسيطاً سمعياً عالمياً، عابراً وشاملاً.
ثانياً، سَتْر النبض الإيقاعي عن طريق تضمينه داخل البناء العمودي والنسيج الهارموني الذي تقوم عليه الجمل اللحنية، يجعل ذلك من الموسيقى الكلاسيكية شكلاً فريداً من أشكال التعبير الصوتي بحيث، وبالإضافة إلى شحنته العاطفية وقدرته على التسخين الشعوري، هو قادرٌ على إيصال حمولة فكرية ومحتوى تمثيلي وتشكيلي قائم على أشكال هندسية، أو ألوان وسرديّات درامية مجازية لأحداث وذُرى تتجلى في البنية أو الشكل، تعبر من أذن المستمع إلى عقله ووجدانه، بصرف النظر عن خلفيته وثقافته.
مؤلفون موسيقيون أوروبيون على مر العصور، من دون شك، ساعدوا في تطوير الموسيقى كشكل فني مُستقل بلغ قمة الأبهة والعظمة لجهة العمارة الصوتية والطاقة التعبيرية. بيد أن قوة الموسيقى الكلاسيكية ونفوذها، والأجدر تسميتها بالأدب الموسيقي العالمي تحريراً لها من الكلاسيكي الثابت، وصلاً لها بالمتجدد المُتحرك، تكمن في إنسانيّتها لا في أوروبيّتها، في عالميتها لا في محليّتها، وبالتالي، في انفتاحها على إسهامات البشرية جمعاء واحتضانها مؤلفين، مؤدين ومُستمعين من كل الشعوب والإثنيات.
ليست الغاية الزعم أن الموسيقى الكلاسيكية هي الميدان الأوحد الذي به وفيه تُخلق الموسيقى العظيمة، وإنما الهدف هو الدفاع عن خيار الفنان والمستمع، بصرف النظر عن قوميته أو خلفية نشأته في تأليف وأداء أو الاستماع إلى كل الموسيقات بما فيها الكلاسيكية، فلا يصير حبيس هوية محلية إلا إذا كانت خياره. فنزاهة الفنان وضرورته الداخلية (بحسب تعبير التشكيلي فاسيلي كاندنسكي) هما اللذان يُحددان إنتاجه الإبداعي، وليس أي اختزال ثقافي أو قولبة تنميطية.