المهرجان الواقعيّ قلعةٌ أخيرة تحمي الفن السابع

22 مايو 2020
مهرجان "كانّ": لا للافتراضيّ (كريستوف سيمون/ فرانس برس)
+ الخط -
تواجه مهرجانات سينمائية عدّة أزمة الاستمرارية. وباء "كورونا" يُعطِّل جوانب كثيرة في الحياة اليومية، ويفرض شروطاً جديدة للعيش، وإنْ يكن هذا مؤقّتاً. الصالات السينمائية مقفلة. تصوير مشاريع جديدة مؤجّل. منصّات ومواقع تُحقِّق تواصلاً بين مُشاهدين وأفلام. مهرجانات عدّة تؤجّل دوراتها الخاصّة بعام 2020 إلى العام المقبل. مهرجانات قليلة تُنظّم دورات العام الجاري افتراضياً، أبرزها مهرجان الفيلم الوثائقي "رؤى الواقع" في سويسرا. "كانّ" يرفض الافتراضيّ، و"فينيسيا" يُصرّ على إقامة دورته الـ77 في موعدها المحدّد سابقاً، بين 2 و12 سبتمبر/ أيلول 2020.

استثنائية اللحظة
النقاش قائمٌ. المُشاهدة السينمائية تتبدّل بسبب إجراءات صارمة في دول كثيرة. العزلة المنزلية "تُبرِّر" مشاهدةً افتراضية، لكن المهرجان غير مكتفٍ بالعروض، فله سوق ومنصّات معنية باقتصاد السينما، ولقاءات ونقاشات، وحياة متكاملة تقوم في محيط مقرّه الأساسي وصالاته المختلفة. هناك إجماع نقديّ على أهمية المهرجان كثقافة وفضاء وحيّز اجتماعي ومعنى للتواصل والاتصال المباشَرَين. لكن كثيرين يُدركون استثنائية اللحظة، فيعتبرون أنّ الافتراضيّ مؤقتٌ، ويُشدّدون على أنّ المؤقّت "يجب" ألا يتحوّل إلى فعلٍ دائم.
نقّاد وصحافيون سينمائيون عرب يجدون، في سؤال "العربي الجديد" لهم عن "المهرجانات الافتراضية"، مساحة نقاشٍ يجمع بين مفهوم المهرجان ومفرداته، وطقوس المُشاهدة ومعانيها، وشقاء الواقع الراهن ومتطلّباته. زملاء المهنة يُدركون صعوبة المرحلة، لكنّهم يُصرّون على أولوية استعادة المفهوم الأساسي للمهرجان، فور انتهاء "أزمة كورونا".

"إذا كان الهدف من تنظيم مهرجانات افتراضية التغلّب على الوضع الحالي، وإنقاذ بعض الوظائف، وضمان الاستمرارية، وبثّ التفاؤل، وإيصال كمّية من الأفلام "اليتيمة" إلى الجمهور، فلا مشكلة كبيرة في لجوء إداراتها إلى هذا الخيار، خصوصاً عند انعدام السبل كلّها أمامها"، يقول اللبناني هوفيك حبشيان، الرافض، في الوقت نفسه، "تكريس" هذا الوضع، بجعله "فاتحةً لمشهدٍ مهرجانيّ جديد، ينقل الأنشطة كلّها إلى الإنترنت، شيئاً فشيئاً". يقول: "أنا ضد هذا بطبيعة الحال، وإلى أبعد حدّ". المصري أحمد شوقي يرى أن إقامة المهرجانات بصيغتها المعتادة "مستحيلة"، معتبراً أنّ هناك بديلين: "الإلغاء، بتبعاته الاقتصادية الهائلة؛ أو الإلكترونيّ، بما يحمله ضمناً من خطر تفكيك المفهوم بأكمله".

من جهته، يرى المغربي سليمان الحقيوي أنّ المأساة التي يعيشها العالم حالياً بسبب "كورونا"، تُعزّز مكانة السينما لدى الجمهور في عزلته: "نسب مُشاهدة الأفلام مرتفعة بشكلٍ كبير، لكنّها تحرم جمهوراً آخر من مشاهدتها في قاعات السينما، وتُكبِّد المهرجانات خسائر كبيرة، بسبب تأجيل دوراتها أو إلغائها أو عرض أفلامها افتراضياً". يُقارن الحقيوي بين أنشطة كثيرة: للثقافة والرياضة والاقتصاد خيارات محدودة، كالتأجيل أو الإلغاء، "مع ما يعنيه هذا من خسائر مادية مباشرة وتراكمية، ستتبدّى مع مرور الوقت". لكنْ، للسينما خيار آخر: "إمكانية العرض الافتراضي"، مع إشارته إلى عدم إمكانية حسم جدوى هذا الخيار المتاح، "إلا في ضوء خصائص السينما نفسها"، إذْ يرى أنّ الجانب الاقتصادي فيها (العرض والعائدات والأجور والعاملون في السينما وسوق الفيلم، إلخ.) "يعني أنّ المهرجانات مدفوعة قسراً إلى خيار البثّ الافتراضي، للضغط على أرقام الخسائر قدر الإمكان، خصوصاً بالنسبة إلى المهنيين".

مهرجان "كانّ" في طليعة المهرجانات المتوجّسة من العروض خارج الصالات. لكنْ، رغم هذا، "ستُقام سوق الفيلم افتراضياً هذه المرّة". يقول الحقيوي إنّ "على كلّ مهرجان مُقبلٍ أنْ يتجرّع من الكأس نفسها". المصري عصام زكريا يرى أنّ "قواعد التباعد الاجتماعي ستظلّ معنا بعض الوقت"، حتّى بعد التعافي من وباء "كورونا"، رغم أنّ التعافي لن يكون سريعاً وقريباً: "حتّى عندما تُقام الدورات الجديدة للمهرجانات، سيظلّ الحضور الجماهيري والإعلامي قليلاً لبعض الوقت". وإذْ يطرح زكريا سؤال الوقت (إلى متى؟)، يقول إنّ الإجاية كفيلة بدفع المهرجانات إلى وضع خطط آنيّة ومستقبلية، مُذكِّراً في الوقت نفسه أنّ مهرجانات عدّة تستعين بالـ"أونلاين" لعرض أفلامها، كـ"مهرجان الفيلم القصير ـ رؤية" (مصر)، ومهرجانات أخرى في العالم: "هذا يُبقي اسم المهرجان وفكرته ومنهج برمجة أفلامه حيّاً".

احتفال بالحياة
لكنْ، ألا يعني المهرجان (أي الـ"فستيفال" بالأجنبية) "الاحتفال الجماعي بفعاليات وشعائر وطقوس أشبه بالأعياد التي يحتاج الناس إليها، لا لمُشاهدة الأفلام والمشاركة في السهرات والحفلات فقط، بل أيضاً اللقاءات والابتهاج والحوار وكسر العادات اليومية المملّة؟"، يتساءل زكريا.
تفسير مفردة "فستيفال" جزءٌ من إجابة المغربيّ محمد اشويكة، مُعيداً إياها إلى اللاتينية "فستيفوس"، التي "تُحيل إلى الترفيه والمكان والزمان، أو التوقيت الذي تُقام فيه الحفلة". يقول إنّ "مفهوم الاحتفال مرتبطٌ، بشكلٍ شبه دائم، بالمهرجانات الدينية، بينما يرتبط معنى الكلمة بالاحتفال عن طريق إقامة المآدب والضيافة". بناء على هذا "النبش اللغوي"، يقول اشويكة إنّه "يصعب تصوّر التعويض الفعليّ للمهرجان بشكلٍ غير واقعي، إذْ سيضيع جوهره ويتلاشى لارتباطه جذرياً بالحياة، وبطقوس الاحتفاء الخاضعة، بالضرورة، لمبدأ الاقتصاد والانتفاع والرواج". لذا، يرى اشويكة أنّه "لا يُمكن للتواصل الإلكتروني والعرض عبر المنصّات أنْ يُعوّضه، فهذه مجرّد تقنية تضمن للتظاهرة استمرارية الذِكْر والحضور من جهة، وتقديم خدمة ثقافية للجميع من جهة أخرى".

التونسي محمد الناصر الصردي يرى أنّ المهرجانات، المتحوّلة دوراتها هذا العام إلى "تظاهرات رقميّة"، ترغب في عدم خسارة دورة مكتملة التحضيرات، كـ"مهرجان قابس" و"مناظر أفريقيا" مثلاً. لكنّه يطرح تساؤلاً، ربما يحتاج بدوره إلى نقاشٍ مستقلّ: "إلى أي مدى اختيار هذا الشكل الجديد من المهرجانات عائدٌ إلى منعطف "كورونا"؟ أم أنّ الأزمة الحالية ذريعة لاختيارٍ بدأ التفكير به قبلاً؟". فهو يرى أنّ علاقة المُشاهد بالفيلم منتقلةٌ، بدءاً من ثمانينيات القرن الـ20، "من عرض جماعي (دُور السينما) إلى عرض عائلي (مشاركة التلفزيون في غرفة الجلوس مع أشرطة "في. أتش. أس." و"دي. في. دي.")، وأخيراً إلى عرض فردي (الكمبيوتر)". يقول: "رغم تواصل تقبّل أي عمل سينمائي بصفة فردية، حتّى ضمن عرضٍ جماهيري، فإنّ طريقة تقبّله متغيّرة تماماً".

من جهته، يُشدّد الجزائري عبد الكريم قادري على أنّ قاعات السينما هي "المكان الطبيعي للأفلام، حيث يلتقي الأفراد والجماعات في فضاء واحد". يقول إنّ هذا السلوك المستحَبّ "يجب تشجيعه، والعمل على ترسيخه في أذهان الجمهور، خاصة من مهرجانات السينما، لأنّه التصرّف الصحيح الذي يجب العمل عليه، والخيار السليم الذي يتبع الفطرة الفنية المجبولة على تذوّق الجمال والإحساس به بين الجماعات". لكنّ "الأمر غير متعلّق بالجانب النقدي" فقط، كما تقول المصرية عُلا الشافعي، فهو "تجاري واقتصادي" أيضاً. تُضيف أنّ الوباء "يُصيب اقتصاد الدول والصناعات الثقيلة وأنشطة أخرى بمقتلٍ، ويؤثّر سلباً على مهرجانات سينمائية كثيرة". لذا، "طبيعيّ أنْ يُبْحَث عن بدائل للحفاظ على استمرارية بعض المهرجانات السينمائية، في ظلّ إلغاء دورات عددٍ منها". تُشير الشافعي إلى أنّ "اللجوءَ إلى عرض الأفلام المختارة للمهرجانات على منصّات إلكترونية حَلٌّ يُناسب هذه الفترة الصعبة، وما يتبعها من إجراءات احترازية". تُضيف: "لا أحد يستطيع لوم القائمين على هذه المهرجانات، الذين يُفضّلون عدم تأجيل دورات هذا العام لصالح صناعة السينما، خصوصاً أنّ المهرجانات ليست فقط عروض أفلامٍ تتنافس فيما بينها، بل أيضاً اتفاقات متعلّقة بشراء أفلام، أو استكمال مشاريع".

المهرجان علاقات أيضاً
في الإطار نفسه، يتساءل الجزائري فيصل الشيباني: "هل المهرجانات أفلامٌ فقط؟"، معتبراً أنّ السؤال "منطلقٌ للإجابة على فرضية تحويل المهرجانات السينمائية إلى منصّات رقميّة لعرض أفلامها". يرى الشيباني أنّ "دور أيّ مهرجان كبير غير مقتصر على العروض، رغم أهمية الأفلام والاختيارات. فهناك أمورٌ أخرى مهمّة أيضاً"، متوقّفاً عند مهرجان "كانّ"، الذي "يُعتَبر عيد السينما في العالم". يتساءل: "هل يكتفي هذا الموعد السينمائي الأهمّ بالأفلام فقط؟"، مُضيفاً أنّ هامش "كانّ" وسوقه "يحملان أشياء كثيرة".

إلى ذلك، يقول هوفيك حبشيان إنّ كلّ مُشارك سابق في هذه المهرجانات "يعرف جيداً أنّ الغرض منها ليس مشاهدة الأفلام فقط، فهي توفّر أيضاً، وخصوصاً، علاقة بمكان وأناسٍ، وبأجواء ولقاءات ولحظات لا تُنسى، وبانتظار في "الطوابير"، وبجلسات في المقاهي، وبمقابلات صحافية". هذا كلّه "يصنع جمال المهرجانات وعظمتها، وليس الرابط الذي يُرسل إليك على بريدك الإلكتروني فتفتحه وأنت ممدّدٌ على السرير". لمحمد اشويكة رأي شبيهٌ بهذا: "يصعب تعويض المهرجان الواقعي بآخر افتراضي، لأنّ التفاعل الحيّ مع الأفلام، وحضور المهرجان، ولقاء صنّاع الأفلام فيما بينهم، ومناقشات النقّاد والصحافيين وعشّاق السينما، واجتماعات لجان التحكيم، وحفلات المهرجان، ولحظات التقاط الصُور، والمرور على السجادة الحمراء، وغيرها، لا يُمكن أنْ تُعاش إلا في الواقع الحقيقي"، فالافتراضيّ يعني "انهيار اقتصاد المهرجانات، الذي يُقاس بميزانيات ضخمة، ويدور في فلكه مُستفيدون عديدون، وكذا الإشعاع الثقافي والسياحي الذي يمنحه المهرجان للمدن والأمكنة الحاضنة".
بالنسبة إلى أحمد شوقي، فإنّ البديل الإلكتروني "يُلائم بعض الأنشطة ربما، كاجتماعات المحترفين في الأسواق السينمائية، والمحاضرات ودروس السينما"، معتبراً في الوقت نفسه أنّ "للّقاء الفعلي قيمته في هذه الأمور، لكنّ تحقيقها بقدر مقبول من النجاح ممكنٌ، شرط التأكّيد على كونه بديلاً مؤقّتاً، إلى أنْ تنفرج الأزمة". فشوقي مقتنع بأنّ "ما لا يُمكن تصوّره هو الاستعاضة عن العروض الجماعية ببثّ الأفلام عبر منصّات الـ"إنترنت"، إذْ رغم أنّ العالم كلّه يتّجه سريعاً إلى سيادة الشاشات الصغيرة، تبقى المهرجانات قلاعاً أخيرة صامدة في صفّ السينما، بمعناها الكلاسيكي كفنّ جماهيري، والوسيلة الأمثل لتلقّيه كامنةٌ في مُشاهدة الأفلام وسط جماعة".
المساهمون